الأربعاء، 8 أبريل 2015

في طَريقِ الوَداع.!

في طَريقِ الوداع.!

يوسف بخيت الزهراني*

من طبيعةِ هذه الحياة الارتحالُ والتنقُّل، حتى بعد أن أصبح الإنسانُ كائناً متحضّرا، يسكُن البيوتَ بعد الكهوف والخيام، إلا أن الرحيلَ ظَلّ يلازمه بصورة أو أخرى، متنقلاً من بلدٍ إلى بلد، متغرباً عن وطنِه وأهلِه، باحثاً عن الرزق في مناكب الأرض.!
في الماضي البعيد كان المقيمُ يودّع المسافرين، أو الظاعنين كما يسمّيهم أجدادُنا العرب، وهو يَنظر بعيونٍ دامعة، إلى قافلةِ الإبل التي ستحملهم ، يقول الشاعر الأعشى:
ودّع هريرةَ إن الركبَ مُرتحِلُ
وهل تُطيقُ وداعاً أيها الرجُلُ؟!
والمعروف عن قصائد المعلقات، أن الشعراءَ يفتتحونها بقصة حُب، وأحد تفاصيل تلك القصة هو الوداع.
ومن منا لا يحفظُ المطلعَ الشهير، لمعلّقة امرئ القيس:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقطِ اللِّوى بين الدخُولِ فحَوملِ
وهنا وقفةٌ مع هذه الأبيات العذبة للشاعر محمد بن القاسم، الذي رحل من مصر إلى بغداد، وتوفي بها في العصر العباسي.
وهي أبياتٌ شهيرة تحولت إلى موّال، في العديد من الحناجر عبر الأزمنة حتى اليوم، ومنها قولُه:
لما أناخوا قُبيل الصُّبحِ عِيسَهُمُ
وحمّلوها وسارتْ بالدُّجى الإبلُ
وأرسلتْ من خلال السَّجْفِ ناظرَها
ترنو إليَّ ودمعُ العينِ ينهملُ
وودّعَتْ ببنانٍ زانهُ عَنَمُ
ناديتُ لا حَمَلتْ رِجلاكَ يا جَملُ
يا حاديَ العِيسِ عَرِّج كي نُودّعهُم
يا حاديَ العيسِ في ترحالكَ الأجلُ
إنّي على العهدِ لم أنقُض مودّتهُم
يا ليتَ شِعري لطولِ البُعدِ ما فَعَلوا؟!
وللشاعر إيليا أبو ماضي قصيدةٌ رقراقةٌ طويلة، عنوانها: وداعٌ وشكوى، يقولُ في مطلعها:
أزفَ الرحيلُ وحانَ أن نتفرّقا
فإلى اللقا يا صاحبيَّ إلى اللقا
إن تبكيا فلقد بكيتُ من الأسى
حتى لكدتُ بأدمُعي أن أَغرقا
وتَسعّرتْ عند الوداعِ أَضالعي
ناراً خشيتُ بِحَرِّها أن أُحرَقا
ويَصفُ أبو ماضي حالتَه وحالةَ أحبابِه يومَ الوداعِ قائلا:
أكبادُنا خفّاقةٌ وعُيونُنا
لا تستطيعُ من البُكا أن تَرمُقا
نتجاذبُ النظراتِ وهي ضعيفةٌ
ونُغالب الأنفاسَ كي لا تُزهقا
وأجملُ ما في القصيدة، أن أبا ماضي ما زال لديه الأمل باللقاء، حيث يقول:
يا صاحبيَّ تصبّرا فلربّما
عُدنا وعاد الشملُ أبهى رونقا.!
وهكذا، تمضي حياةُ الإنسانِ من وداعٍ إلى وداع، وطالما بقي من ودّعناه حياً يُرزق؛ فالأملُ باللقاء يبقى مستمرا، لكن ليتَ شِعري، كيف لنا أن نلقى غاليا، فرّق بيننا وبينَه وداعُ الموت؟!
من أشهر قصائد الوداع، التي مات أصحابُها سريعاً بَعدَها، قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسِه، وهي مليئةٌ باللوعة والحُزن، ومن تلك القصائد أيضا، قصيدة الشاعر علي بن زُريق البغدادي، وهي مع قصيدة مالك بن الريب، تُعدّان من عُيون الشِّعر العَربي.
من قصيدة ابن زُريق هذا البيت:
وكم تَشبّث بي يومَ الرحيل ضُحى
وأدمُعي مستهلاتٌ وأدمُعهُ
أيها الأعزاء، ودّعوا أحبابَكم بحرارة، واستقبلوهُم بلهفَة، وعيشُوا على أملِ اللقاء.!

ـــــــ
نقلاً عن صحيفة مكَّة (الورقيّة)
ـــــــ
*كاتب بصحيفة مكَّة (الورقيّة)
في صفحة الرأي
كل أربعاء.
ــــــ
للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صُورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة، بجوار عبارة:
الصفحة الرئيسية، هذا شكله > ، باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
ــــــ
للتواصُل مع الكاتب:

تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com

هناك 13 تعليقًا:

  1. يوسف بخيت الزهراني - كاتب المقال
    الباحة - المملكة العربية السعودية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حياكم الله جميعا إلى موعدنا الأسبوعي المتجدد بهاء بوجودكم.
    كما قرأتم حضراتكم، فالمقال أعلاه يتحدث عن الوداع ولوعته وآهاته.
    فكم ودعنا من أقاربنا وأحبابنا، وكم ودعونا هم؛ في مشهد حياتي متكرر،
    سيبقى ما بقيت هذه الحياة واستمرت.
    وتبقى مشاعر الوداع نفسها، من زمن الدواب قديما وحتى زمن السيارات والطائرات وبقية
    وسائل النقل الحديثة في هذا العصر، ويبقى الإنسان يغالب دموعه لحظة الوداع، محاولا كتمان مشاعره
    التي تأبى إلا أن تبدي مكنون قلبه.
    لكل حبيب انتقل من بقعة في هذه الأرض إلى بقعة أخرى، نقول له:
    حفظك الرحمن أينما حللت أيها الغالي على القلب، الساكن فيه.
    ولمن ودعناهم إلى الدار الآخرة نقول:
    رحمكم الله رحمة واسعة، وأسكنكم فسيح الجنان، وجمعنا الله تعالى بكم
    في مستقر رحمته ودار كرامته، إنه أرحم الراحمين.
    شكرا لكل من يقرأ ويتابع مقالاتي، وشكرا لمن يسعدني بتعليق أو رأي.
    محبتي واحترامي لكم جميعا، والسلام عليكم.

    التعليق على المقال من جهاز الكمبيوتر الشخصي (اللاب توب)
    أسهل منه عن طريق الجوال.
    نكتب في جوجل:
    مدونة يوسف الزهراني
    ثم نختار النتيجة الرابعة تقريبا، نفتح المدونة، ثم نفتح أحدث مقال،
    وننزل أسفل المقال لإضافة التعليق.
    طريقة التعليق هكذا:
    الذهاب تحت المقال
    ثم نختار: إرسال تعليق
    ونكتب التعليق الذي نريده، مع ضرورة كتابة الاسم والمدينة في البداية.
    ثم نذهب إلى خانة: التعليق باسم لاختيار ملف التعريف،
    ومنها نختار: مجهول
    وربما نضع علامة صح في مربع صغير،
    أو إدخال رمز بحروف إنجليزية،
    ثم: نشر.

    ردحذف
  2. عبالرحمن محمد - مكة المكرمة

    حضرة الأستاذ الكبير يوسف الزهراني
    سلامي وتحيتي لحضرتك
    كم أشعر بالسعادة وأنا أقرأ مقالاتك المليئة بالإبداع
    وهذا المقال عن الوداع يضاف إلى ما سبقه من روائعك
    يا الله، لقد رحلت معك يا أستاذ يوسف بعقلي وقلبي
    وأخذتني كلماتك إلى مواقف الوداع العديدة التي عشتها في حياتي
    أنت كاتب فائق الروعة والإبهار
    ومقالاتك مليئة بالمشاعر الصادقة
    شكرا لك دائما، وشكرا لصحيفة مكة الورقية
    التي أفردت لك مساحة لتسطر فيها كل جميل
    حفظك الله ورعاك..

    ردحذف
  3. أحمد الحاني - الرياض

    هلا وغلا بالأستاذ والكاتب المبدع يوسف الزهراني
    لقد أبحر بي قلمك الرائع في ذكريات ومواقف كثيرة، من مواقف الوداع التي لا أنساها، وأصعبها وداع والدي ووالدتي رحمهما الله وجميع أموات المسلمين، وكذلك وداع أحبة وأصدقاء أخذتهم وأخذتني زحمة الحياة، أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهم قريبا في أحسن حال.
    أخي يوسف، والله إن قلمي ليعجز عن وصف ما تقدمه لنا من إبداع متواصل.
    أنت بحق كاتب رااااقي بفكرك وفنك وبلاغة قلمك وصادق إحساسك.
    لك مني كل الشكر والتقدير على ما تكتبه.
    وفقك الله وسددك لكل خير.

    ردحذف
  4. وائل عبدالرحيم - القاهرة

    هذا هو الأستاذ يوسف الزهراني الذي أحببنا قلمه وفكره الراقي
    هذا هو سفير الأمل الذي ينشر في حياتنا الأمل والتفاؤل بكتاباته
    وروعته التي لا تننتهي..
    من الأعماق، شكرا لك حبيبنا الأستاذ يوسف الزهراني
    واصل عطاءك..

    ردحذف
  5. رباب عبدالوهاب - تونس

    ويستمر الأستاذ يوسف في كتابة وإضافة الروائع لمقالاته العذبة
    واليوم نقرأ له هذا المقال الذي لا تكفي الكلمات لوصف روعته
    يا حادي العيسِ عَرِّج كي نُودّعهم
    يا حاديَ العيسِ في ترحالكَ الأجلُ
    ما أعذب هذا الموال بصوت صباح فخري، الذي يردده بشجن لا ينتهي
    لك التقدير والاحترام أستاذ يوسف

    ردحذف
  6. د. خالد عبداللطيف - الدمام

    القارئ لمقالاتك يا أستاذ يوسف، تتملكه أحاسيس متنوعة ما بين السعادة والرضا
    والقبول لما تكتبه، هذا الصدق الذي نجده في كتاباتك؛ هو ما نحتاجه من كل الذين
    يحملون القلم ويتصدون لأمانة الكلمة.
    وبذلك يتحقق الهدف الأسمى لكل ما تخطه الأقلام.!
    شكر الله سعيك أيها المبدع الكبير :)

    ردحذف
  7. فارس الخوري - بيروت

    هذا الإنسان المتدفق عذوبة
    الأستاذ يوسف الزهراني
    أعتبره في طليعة الذين أقرأ لهم من الكُتاب العرب
    وله منّي تحية خاصة على كل ما يقدمه من عطاء..

    ردحذف
  8. إبراهيم الفرج - الكويت

    أيها الأعزاء، ودّعوا أحبابَكم بحرارة، واستقبلوهُم بلهفَة، وعيشُوا على أملِ اللقاء.!
    الله عليك يا أستاذ يوسف، وعلى هذه العبقرية التي تمتلكها
    حفظك الرحمنُ من كل مكروه، وأدام لنا هذا الإبداع
    وهذا الإحساس الصّادق من شخصك الكريم.
    ♡♡♡

    ردحذف
  9. ماجد سعد - الباحة

    في طريق الوداع ..
    شدني موضوع مقالك كثيرًا .. فكلنا ماضون في درب الوداع !!

    قال الشاعر:
    علمتني فُرقة الأحباب أن أبدو شجاعا
    إن رأيتوني حزين القلب في الفكر مشاعا
    فاعلموا أن محبًا قال للصحب وداعا

    لقد صغت لنا في مقالك الرائع قاعدةً حياتية رائعة :
    " أيها الأعزاء، ودّعوا أحبابَكم بحرارة، واستقبلوهُم بلهفَة، وعيشُوا على أملِ اللقاء
    أهنئك على إبداعك .. واتمنى لك التوفيق .
    أودعك بحرارة .. لأسقبلك الأربعاء القادم - بإذن الله - بلهفة ..

    ردحذف
  10. عبير - قطر

    موعد أسبوعي ننتظره بكل شوق
    إنه موعدنا صباح كل أربعاء مع مقال كاتبنا الكبير
    الأستاذ يوسف الزهراني
    والذي تتهادى إلينا كلماته عبر صحيفة مكة
    ويقوم بنقلها مشكورًا إلى مدونته الرائعة هنا
    تحية تقدير ووفاء لصاحبنا سفير الأمل،،،

    ردحذف
  11. محمد التركي - الرياض

    أي بحرٍ من الإبداع هذا الذي تغرفُ منه يا أستاذ يوسف؟!
    نحن القُراء أمام قطعة أدبية، باذخة البلاغة، عبقرية الفكرة،
    من النادر أن أقرأ في صحافتنا المحلية، بل وحتى العربية، مقالاتٍ بهذا
    المستوى العالي جدًا من الإبداع والإتقان من جميع نواحي اللغة.
    حقٌ[ على كل من يقرأ لك؛ أن ينشر مقالاتِك لأنها تُحرض عل الجَمال والذوق الرفيع.!
    وهذا الذوق الأدبي الرفيع؛ افتقدناه كثيرًا في المقالات الصحفية،
    وأصبحنا نطالع الكثير من الغُثاء، لكن وجود رفيقنا سفير الأمل؛ هو أكبر باعث للأمل،
    أن يوجد بين شبابنا من يحملون مشعل الإبداع، وينيرون عتمة اللغة في بعض الزوايا!!
    الشكر الجزيل لك أستاذ يوسف

    ردحذف
  12. ما شااء الله تبااارك الله.. الله يوفقك ويسدد خطااك ياا أستاذنا الفااضل/ يوسف بن بخيت الزهرااني
    وكتاباتك جميله ورااائعه جدآ...
    أخوك المحب لك/ هلال أحمد الزهراني...ابو احمد

    ردحذف
  13. شذى /جده

    ويبقى الوداع الذي لايعقبه لقاء هاجس مخيف وهو اقسى انواع الرحيل ..
    كاتبنا الرائع ..أيها الجميل..
    ماأروعك وما اروع قلمك حين يصول ويجول بين الكلمات فتختار الحروف بكل أتقان لتصيغ لنا من الأبداع سطور تُبهر كل من ينظر إليها ..لأطروحاتك دوما فلك خاص يضم كل الابداع بين جنباته ويضم كامل الانسانيه بين اكفه
    فانت تجمع دائما لنا فن الانتقاء وفن روعة العقليه والانسانيه
    سلمت يمينك
    ولك احترامي وتقديري.

    ردحذف