يوسف بخيت الزهراني
زجاجة عِطر *
حواس الإنسان عالَم عجيب يستحق التأمل كثيراً، وأنا لا أقصد فقط الحواس الخَمس التي درسناها صغاراً، فهناك الحواس الداخلية التي نشعر من خلالها بأحاسيس مختلفة، ما بين الحُب والخوف والرجاء، وإحساس النشوة والجوع والألم، ولا أنسى ذلك الشعور الخفيّ الذي نعجز عن قوله أو وصفه، هل تعرفونه أعزائي؟!
لا شك بأنكم مررتم به في يوم من الأيام، وهو يخالجنا بين الحين والآخر، عندما يقول أحدُنا: شعرتُ بشعور غريب، لا أعلم تماماً ما هو!
وهناك المشاعر التي لَم تحدُث لنا، ولكننا نحس باقترابها منا، هكذا بلا سابق إنذار، نجد أنفسنا سعداء متفائلين؛ فتتحقق لنا أشياء سعيدة في الأيام التالية، أو العكس، وكل ذلك بمشيئة الله تعالى وإرادته سبحانه.
وحاسة الشمّ إحدى حواسنا الخَمس، وهي لا تقل أهمية عن بقية الحواس في تكوين الانطباع عن الأماكن والأشخاص، فتنجذب أنفسنا إلى مكان ما أو شخص بعينه أو تهرُب منهما.!
وفي قصة نبي الله يوسف يقول الله تعالى، حكاية عن أبيه يعقوب عليهما السلام «إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون»، وقد أخبرني سيّدي الوالد عليه شآبيب الرحمة عن تأثره بالقصة كثيراً، ولهذا اختار لي اسم يوسف.
إنها لغة الرائحة وما تحمله من رسائل وإشارات، وما تتركه بذاكرتنا من مشاعر وذكريات ترحل بنا بعيداً لسنين مضت وأصبحت ذكرى، وتأخذنا إلى أشخاص وأماكن ومواقف تحتفظ بها عقولنا.
تنتظم زجاجات العطور في غرف نومنا بجوار بعضها، وتتنوع أشكالها وروائحها، تختلف حكاياتنا وذكرياتنا معها، فهذه الزجاجة من حبيب يقيم بالقلب، وتلك من صديق أثير، وزجاجة من عزيز راحل.
حتى تعاملنا مع الزجاجات يختلف، فنلاحظ أن إحداها على وشك أن ينتهي منها العطر، لكثرة ما نستخدمها، ولأنها غالية في ذكراها، ولدينا الرغبة أن نستعيد تلك الذكرى كلما تسلّل عبيرها إلى أنوفنا، بينما الأخرى كاملة لم نستخدمها، ربما لأننا نهرب مِن ذكراها المؤلمة والمحزنة، لعلها لحبيب هجرنا، أو لعزيز فارقنا بالموت، والثالثة تنتهي سريعاً لكننا نشتريها مجدداً، لشعورنا معها بحياة مختلفة لأسباب وأسرار نحتفظ بها.!
أيها الأعزاء، زجاجات العطر ليست مجرد هدايا جامدة، بل هي مرايا لمراحل حياتنا، نشاهد فيها وجوه مَن أحببناهم وأحبونا، ووجوه مَن هجرونا بلا سبب، ووجوه مَن انقضت أعمارهم وانتقلوا إلى رحمة الله تعالى، فإذا شممنا رائحة أحبائنا انتعشت فينا مشاعر الفرح، أما إن باغتتنا رائحة مَن تركونا فإن الغصة تعتصر قلوبنا، وإذا عبقت روائح الراحلين لفّتنا مشاعر الألم.
العطر رفيقنا الدائم، وملهمنا الأثير، نرشه على أيدينا وملابسنا، نتنفس الرائحة عميقاً، تتبعها آهات لا نستطيع رَدّها، يسرح معها الخيال بعيداً، تنتهي زجاجة العطر وتبقى ذكرياتها، ترافقنا في أيام السعادة وليالي الشوق، لتصنع لنا حياةً موازية، عابقة بشذى الفرح وممزوجة بعبير الذكريات.!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@
بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خالد أحمد ـ مكة المكرمة
ردحذفهذا المقال يفوح بشذى الورود من كاتبنا الأجمل.
عندما يكتب الأستاذ يوسف بخيت الزهراني يستمتع معه القارئ
بعبقرية الفكرة، وعذوبة اللغة، وسلاسة الأسلوب، وانسياب العِبارات.
ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
أتمنى لك مزيد التوفيق كاتبنا الجميل.
عبدالعزيز الكناني ـ الرياض
ردحذفأيها الأعزاء، زجاجات العطر ليست مجرد هدايا جامدة، بل هي مرايا لمراحل حياتنا، نشاهد فيها وجوه مَن أحببناهم وأحبونا، ووجوه مَن هجرونا بلا سبب، ووجوه مَن انقضت أعمارهم وانتقلوا إلى رحمة الله تعالى.
لا عدمنا هذا الإبداع أستاذ يوسف.
سارة محمد ـ البحرين
ردحذفيا سلام على هذا المقال الجميل
رائع جدا جدا
شكرا جزيلا أستاذ يوسف
عبدالغني أحمد ـ جدة
ردحذفللتميز في الكتابة عنوان
إنه الأستاذ يوسف
صاحب الأخلاق العالية والإبداع المستمر
أتمنى لك كل خير
فاتن محمد ـ القاهرة
ردحذفالعطور لها لغة خاصة يعرفها أصحاب الذوق الرفيع.
مقال متميز لكاتب متميز
أطيب الأمنيات بالتوفيق أستاذ يوسف
شكرا لحضرتك.
محمد الخزمري
ردحذفسلمت أناملك ياراقي .. أنت العطر الذي ينفث في سماء الإبداع شذى الفكر البديع .
وفقك الله
مساء الورد
ردحذفمقال رائع برائحة كل العطور
شكراً أستاذنا الفاضل على جميل عطاءك
وردي و ودي
" منى رفاعي "
مي عبدالله الطويل
ردحذفمن عنوانه نجِد رائحة عبقة تعطر الفكر.
سلمت وسلم فكرك.
وردة دمشقية
ردحذفمساء الورد
مقال رائع سلمت أناملك العطرة
أحمد الشهري ـ السعودية
ردحذف����
زجاجة عطر لحضرتك بقدر مافي مقالك من عمق نفسي مؤثر..
د. نسوم
ردحذفمقال جميل كجَمال يوسف.!
إني راحلة
ردحذف
نختزل رائحة من نحبّ، في قارورة عطر!!
نوال الصديقي
ردحذفدائماً تتحفنا بكتاباتك الجميلة والأكثر من رائعة.
فواز عبدالله ـ الإمارات
ردحذفالعطر رفيقنا الدائم، وملهمنا الأثير، نرشه على أيدينا وملابسنا، نتنفس الرائحة عميقاً، تتبعها آهات لا نستطيع رَدّها، يسرح معها الخيال بعيداً
رائع أستاذ يوسف.
سَمَر
ردحذفأخذتْني كلماتُك إلى البعيد .. إلى نوبة من البكاء الداخلي .. ألم يعتصرني .. حزن ملأ عيني وجميعي.!
شكرًا لك ..
عمر الحازمي
ردحذفمقال رائع أستاذ يوسف، تفوح منه روائح عطرة.
يعطيك العافية على تألقك الدائم.
ماشاء الله تبارك الله مقال رائع أستاذ يوسف بخيت الزهراني تفوح رائحة العطر من ثنايا الكلمات والجمل المعطرة باﻹحساس المرهف .
ردحذفدعواتي لك بمزيد من التقدم والرقي .