الأحد، 10 يناير 2016

في بيتِنا القديم.!

يوسف بخيت الزهراني

في بيتِنا القديم.! *

دون موعد سابق، تقودنا الأقدار وتحملنا الأقدام إلى أماكن لا نتوقع أننا سنعود إليها ذات يوم، لا لسبب محدَّد، ولكن لظننا أن ذكريات تلك الأماكن قد رحلت، وبالتالي فما معنى العودة إليها بلا ذكريات ولا ذاكرة؟
بمجرد وصولنا إلى تلك البقعة العزيزة، تنهال غيمة الذاكرة بمواقف لا تنتهي، تروي عطش القلب وظمأَ الروح وجفاف الوجدان، وتختلط مشاعر الأشجان والحنين.
ماذا أقول والعبرات تترقرق؟ ماذا أحكي والشوق يعود بي إلى سني طفولتي؟ ماذا أكتب والمواقف تزدحم في العقل؟ فأنا سأتحدث بالضرورة عن بعض ذكرياتي مع والدي رحمه الله.
أفتح الباب الصَّدِئ لمنزلنا القديم، أنقل بصري وخطواتي في حجرات البيت المعدودة، يا الله .. هنا كان يجلس أبي ـ غفر الله له ـ يفتح مذياعه في ليالي الصيف المنعشة وينصت إليه باهتمام، وفي المكان ذاته كنا نجلس معه جميعاً لتناول طعام الإفطار في شهر رمضان.
يا الله .. كأني أستمع إلى صوت أبي ـ عليه شآبيب الرحمة ـ يَعبر روحي، يحثنا على مذاكرة دروسنا، أو يوجّه المخطئ، ويثني على المصيب، ويسأل عن الغائب منّا عن نظره، سقى الله عهده من زمن.
لن أنسى ذكرياتي في منزلنا القديم مع أمي الحبيبة ـ رعاها الرحمن ـ سيدة القلب الأثيرة، وصوت الحب الذي امتلأت خلايا جسدي بنغماته، وأول وجه رأته عيناي وفاضتا بمحبته، وهل ينسى الإنسان نفسه؟
أُمي ـ أَمدّها الرحمن بموفور الصحة ـ كانت ولا تزال نور منزلنا وساعته المنضبطة، تستيقظ باكراً، وتوقظ النائمين لأداء صلاة الفجر ثم الاستعداد للمدرسة، وبين كل لحظة وأخرى، تصل إلى مسامعنا دعواتها النديّة لنا بالحفظ والتوفيق.
نعود إلى منزلنا ظهيرة، تستقبلنا أمي بمحبة، ترسل أحدنا بطبق من الطعام إلى الجيران الطيبين، ليعود الطبق ذاته مملوءاً بطعام من عندهم.
في ليالي الشتاء نجتمع حول أمي، نتدفأ بحكاياتها التي لا تكاد تنتهي، يتلاشى الزمن، ويبقى صوت أمي الساعة التي تحدّد موعد خلودنا للنوم.
أما أيام الإجازات، فهي لي ولبقية إخوتي الأعزاء وأخواتي العزيزات منتهى السعادة والانطلاق، ومساحة حُرة للّعب وبعض العبث الطفولي.
جلستُ على عتبة الباب الداخلي وسرح عقلي بعيداً، ما أدهشني في منزلنا الصغير الجميل هو ضآلة مساحته. نعم، بعد كل هذه الأعوام، لفت نظري أن منزلنا القديم صغير مقارنة بمنازل اليوم، أقطع فيه بضع خطوات من طرفه إلى طرفه .. يا الله .. كل تلك الطفولة الصاخبة بفصولها المتعددة ومشاهدها الكثيرة كان مسرحها هذه المساحة الصغيرة!
وأنا أفكر وأتأمل غرف البيت الصغيرة، تيقنت أن أجمل اللحظات وأسعد الأوقات وأغلى الذكريات يمكن أن تضمها مساحة مكانية ضئيلة، لكن الاعتبار كل الاعتبار يبقى لمساحة العقل والقلب التي يجب أن تمتد إلى ما لا نهاية لتستوعب عمراً بأكمله من الفرح والنقاء.!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك 26 تعليقًا:

  1. سامي غَتّار - السعودية

    رائع يا يوسف
    أخذتني معك إلى حيث الزمن الجميل،إلى طفولتك التي تشبهني- تماماً - وكأني أنا المعني بماكتبت ..

    ردحذف
  2. ليلى - قطر

    يا الله .. كل تلك الطفولة الصاخبة بفصولها المتعددة ومشاهدها الكثيرة كان مسرحها هذه المساحة الصغيرة!

    وأنا أقول لك الوسع وسع القلوب..

    ردحذف
  3. عُمر الحازمي

    أعدتَني أستاذ يوسف بحسرة إلى الزمن الجميل الذي لا أملك منه سوى الذكريات والصور .أنت تملك كنزا كبيرا بالمحافظة علي البيت القديم.

    ردحذف
  4. خالد

    لقد عدتَ بنا للخلف (الوراء) الجميل
    الله .. ليتها تعود تلك السنين الجميلة
    شكرا لك ولمقالك.

    ردحذف
  5. أمل

    وفقك الله لما يحب ويرضى وتحب وتسعد به
    قلمك وحرفك ينبض بروح الحياة ويلامس القلب
    دامت ايامك بالخير والعطاء

    ردحذف
  6. جود - حائل

    تسلم اناملك وصدق احساسك مقال روعة��رجعنالايام كانت حلوه رغم قساوة العيش .الله يرحمهم ويجمعنابهم في الجنان يارب
    واصل الابداااع

    ردحذف
  7. أمل amal230a@

    الله الله الله
    رائعة بعض الذكريات ثروة .

    ردحذف
  8. دموع الغلا

    سامحكَ الله يااا...
    نبشتَ ذاكرةَ المكان وفتحتَ رسائل وكلمات قيلت وكتبت لي فبكيييت بكاءً يكسرالضلوع..

    ردحذف
  9. العيطموس

    رائع ومؤثر ..����
    .
    ذكرتُ زمانًا كان يجمعُ بيتنا
    ففاضت دموعي واستطار له قلبي
    .
    فواهًا له لو عاد للوصل مَرةً
    فأعطيه ماأبقى التفرّق مِن لُبّي

    ردحذف
  10. أمل عبدالله
    amalabdullah146@

    كتاباتك كلها تعجبنا.. أنت إنسان مبدع

    ردحذف
  11. محمد حمدان - السعودية

    رووعة وذاك ليس بغريب من قلمك المبدع

    ردحذف
  12. أمل amall_all@

    تلك المساحة الضئيلة مِن العقل والقلب
    هي بالفعل عمر بأكمله مِن الفرح النقاء والعطاء
    زاد لتلك الأيام العجاف
    دمتَ بخير.

    ردحذف
  13. خلود الزامل

    مقال أظنه لامَس قلوبَ كثيرين
    خاصة الفقرة اﻷخيرة

    ردحذف
  14. أبو عيسى

    أكثر من رااائع

    ردحذف
  15. عبير الحربي

    مقال يجعلنا نعيد التفكير في سير حياتنا ، و أن نحرص على "صنع" ذكريات جميلة تبهجنا حين نذكرها..فالأيام ستمضي

    ردحذف
  16. صالح

    غصة خانقة قتلتني..
    شكرآ أستاذ يوسف

    ردحذف
  17. سليمان السالم - السعودية

    جميل منك هذه الذكريات أخ يوسف، وأتمنى لك حياة مليئة بالسعادة.

    ردحذف
  18. داليا

    صَدَق قلمُك ..
    تبقى ذكريات بيت جدي أيام زمان عالقة بأحلى الذكريات .. ♡

    ردحذف
  19. مَنسي الزهراني

    سامحكَ الله يا يوسف .نبشتَ ذاكرة المكان وفتحتَ صندوقَ الذكريات المغلق!

    ردحذف
  20. أزهار الكرز

    الحي عِطر الحارات العتيقة، أراجيح الحبال، صوت الجدّات، وعبق البيت القديم..

    مشاهدٌ تتوقفُ عندها الذاكرة

    لله دَرّك ولنا دُررك.

    ردحذف
  21. ريما

    كل الاعتبار يبقى لمساحة العقل والقلب التي يجب أن تمتد إلى ما لا نهاية لتستوعب عمراً بأكمله من الفرح والنقاء..
    أستاذ: يوسف مقال رائع.

    ردحذف
  22. نوال الصديقي

    الله يرحم كل أب تحت التراب الله يجعل مثواه الجنة
    كلمات رائعة تعيدنا إلى زمن الطفولة الجميلة

    ردحذف
  23. هَيَا النعيمي

    أجزم أنّ الكثيرين كتبوا لكَ أنكَ تحدثتَ عن بيتهم وعن طفولتهم وأنا منهم.
    الفارق أنّ والدي هو الفلّاح الذي بذر حُب القراءة والثقافة في داخلي..

    ردحذف
  24. الجازي

    راااائعة هي أيام الطفولة، والماضي دائما يكون فيه الحنين والشعور بالرضى والقناعه في حياتنا.. أحسنت موووفق.

    ردحذف
  25. خالد الفاضلي - السعودية

    لأن أغلب السعوديين ليس لديهم بيت قديم / يوسف الزهراني/ يكتب مقالاً رائعاً، لكنه نخبوي جدا، رغم أن قلمه للفقراء زاد و ضماد.

    ردحذف
  26. فاطمة

    المقال جميل ومؤثر.ولكن كيف غابت عنك ذكرى اﻻماكن
    --اﻻبالزياره--وهي التي تبكينا وتضحكنا في كل حين

    ردحذف