الاثنين، 4 يناير 2016

لماذا يَرحلون بِلا سَبب؟!

يوسف بخيت الزهراني

لماذا يَرحلون بِلا سَبب؟! *

في كثير مِن الأحيان، نعتقد أنّ قلوبَنا محصَّنةٌ ضدّ الحُب، عاليةٌ أسوارها، منيعة أبوابها، لا يقوى على القفز فوق تلك الأسوار أحد، ولا يجرؤ على اقتحام هاتيك الأبواب إنسان، وفي حالة مِن اللا وعي، تصيبنا سهامُ الغرام، ونسقط في شِباك الحُب، ويغدو حالُنا كحال الحمامة المطوَّقة، التي قرأنا قِصتَها صغاراً، كلما حاولنا الفكاك مِن الشبكة زاد التفافُها حولنا.
نهرع لأحبائنا نلتمس منهم العون، فنجِدهم لا يقلّون عنّا حيرة، ينظرون إلينا بعيون تائهة، ويخاطبوننا بصوت متقطع، يبثون لنا لوعاتهم، ويشاركوننا آهاتهم، وفي كلّ مرّة يبقَى حالُنا على ما هو عليه، وعلى المتضرِّرين اللجوء إلى محكمة الحُب، التي لم تنصِف العُشاقَ في سالف الزمان، وأحسبها لن تفعلَ ذلكَ أبداً.
وفي دروب اللهفة، نَفقد بعضَ مَن بادلونا الحُب، هذا الفقد المنطوي على عظيم الألم، تتعدّد أسبابُه، وتتنوّع ظروفُه، فبعض الأحباب رحل مُرغَماً لا مختاراً، أما الأعظم خطأً والأفدح جُرماً، فهُم الذين شرّعنا لهم أبوابَ قلوبِنا، ونوافذَ أرواحِنا، واستودعناهم أثمنَ أسرارِنا، ثُمّ تركونا فجأةً في منتصف الطريق، تعصفُ بنا رياحُ الشتاء الباردة، بلا جُدرانٍ تحمينا، وتلفحُنا شمسُ الصيف الحارقة، بلا سقفٍ يظلّلنا، فقد انهار منزل المحبة، تهاوت حيطانُه، وخرّ سقفُه، وتشرّد سكانُه العشاق في متاهاتِ الهَجر وطُرقاتِ الضياع.
وبَعْد أن كانت أسرار الحُب مخبوءةً بينَ ضلوع المحبين، وفي أعماق أرواح الهائمين، إذ بها باتت أحاديث السمّار، وقصصاً يتناقلها الركبان، يزيدون فيها وينقصون، وينسجون مِن خيالاتهم أموراً لم تحدُث، بل يستحيل حدوثها.
وتمضي حلاوةُ العمر، وتبقى مرارةُ الأسئلة: لماذا رحلوا بلا سبب؟ لماذا مزّقوا قلوبَنا بوعود الوفاء الكاذبة، لماذا داسوا على مشاعرِنا وسحقوها؟ لماذا نثروا أحلامَنا تذروها الرياح؟ لماذا تبخّرت وعودُ الحُب ومواعيدُه؟
ويستمر المحبون المنسيون، في ترديد أبيات الشاعر إبراهيم ناجي، رحمه الله، مِن قصيدة الأطلال:
يا غراماً كان مِنّي في دَمي قَدَراً كالموتِ أو في طَعْمِهِ
ما قَضينا ساعةً في عُرسِهِ وقَضينا العُمرَ في مأتَمِهِ
ما انتزاعِي دَمعةً مِن عَينِهِ واغتصابي بَسمةً مِن فَمِهِ
ليتَ شِعري أينَ مِنهُ مَهرَبي أينَ يَمضي هاربٌ مِن دَمِهِ؟
وتتزايدُ الأسئلةُ الموجِعة، لتَصنع فجواتٍ في القلب والعقل، ومساحاتٍ فارغة في الروح، تؤلمُنا كلّما مرّت ذكرى الفراق، وتجمّعت غيمات الحنين، لتذوي الأجسادُ شيئاً فشيئاً، وينطفئ سراجُ اللقاء، وتغمر العتمةُ زوايا الذاكرة، وتتلاشى مواعيدُ الفرح.
وبسذاجتنا المعهودة، نبدأُ رحلةَ البحث عن جُرحٍ جديد، ينسينا الجُرحَ القديم الذي لم يبرؤ، ولم يتوقّف نزيفُه بَعْد.
هذا مع يقينِنا بأنّ الأشياءَ الجميلةَ لا تستمرّ، أعمارها قصيرة كأعمار الفراشات، تمضي سريعاً كأحلام ليالي الصيف، وتتركنا نقلّب دفاترَ ذكرياتِنا، ونحاولُ العيشَ مع ما بقي مِن تفاصيلِها، بصحبة ابتساماتِنا التي فَقدتْ طعمَها، بَعْد أنْ فَقَدْنا مَن كان يرسمُها على شِفاهِنا.!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك 17 تعليقًا:

  1. سُميّة

    مقال رائع جداً
    كل طرق الرحيل موجعة مهما كانت أسبابها

    ردحذف
  2. سَمَر

    مقال جدًا جميل وراقي ..
    من يحبنا ويريدنا بصدق لن يرحل ويتركنا ..
    شكرًا لك .. بإنتظار القادم المميز ان شاء الله

    ردحذف
  3. خريف العمر

    هكذا هو دستور الحُب يتوارثه من قوانين الحياة
    لاشيء يستمر كما كآن
    والبلاء أننا علمناذلك ولم نتعلم
    وسيبقى الحب قدرٌ جميل والفراق عاقبته..

    ردحذف
  4. عُمر الحازمي

    الله عليك يا كاتب الحب..
    يوسف الزهراني يتجلّى بمقال رائع عن الحب.

    ردحذف
  5. ليلى

    وتمضي حلاوةُ العمر، وتبقى مرارةُ الأسئلة: لماذا رحلوا بلا سبب؟ لماذا مزّقوا قلوبَنا بوعود الوفاء الكاذبة؟!
    روعة يا صاحب المداد الفذّ!

    ردحذف
  6. إني راحلة

    فلسفة الحب ،أعمق ما يمكن الكتابة عنه ..
    ما أجملك !!

    ردحذف
  7. أمل زللي

    سيأتي يوم وتجد من يضحي من أجل ابتسامة يرسمها على وجهك، فلا تغلق أبواب قلبك فليس كل من يدقها ينوي جرحها..

    ردحذف
  8. هناء

    الأشياءالجميلةعمرها قصير، ولكنها تهب العمر أضعافا والبعض منها يخلد مدى العمر..

    ردحذف
  9. زهر ينبع

    كتابة رائعة وأسلوب أروع
    كم تشعر قلوبنا بمرارة الفراق...

    ردحذف
  10. ميسون السعيد - الأردن

    مبدع بإحساسك، وصادق بمتلازمة الحُب والرحيل.

    ردحذف
  11. نورة إبراهيم

    مقال كلّه مشاعر
    تستحق الشكر عليه

    ردحذف
  12. أحلام الزهراني

    أجمل من الجَمال.. قرأتُه مرتين
    صحيح.. لماذا يرحلون بلا سبب؟!
    ويتركون وراءهم آلاف المواجع؟!
    جميل ما شاء الله
    وليس بغريب عليكَ أستاذي

    ردحذف
  13. عوض آل شقاف

    """"" هذا قدري """""
    ســكه طويـــلـة اناظر المشوار بعيد عن عيني بعيد ،،
    فــيـنـي ألم وأنواع الصبر والحيرة زادتني ضياع ،،
    ماعــاد بقوى وتعبت ابنقل خطوتي ،،
    خايف ومرعوب ،،
    تدرين بعدك صابني هم السنين ،،
    كانت معاي والفرحة تجمعنا سوا ،،
    وكانت تقول الحب هو لأجلك بقى ..
    وفي عز شوقي خانتني الأحوال ،،
    وما كفى مني وفاء وما عاد بدري ،،
    ليه الفراق !! يوزع اوراق اللقاء ،؟؟
    وليه خيبات الزمن !! تسرق امانينا جفا ،؟؟
    وليه الدموع!! تنظر لوقت البسمه وتغتالها ، ؟وكيف الشموع بتنطفي وقت اللقاء ،،!!
    وليه الدروب ابعاد وافراق وشتاء .،!!
    عجزت ابفهم كان الوعد منها وهم ،،!!
    ياصوتي المبحوح
    ياقلبي المجروح
    ياعمري الضايع هباء ،،
    ماعاد لي غير امنية ،،
    قبل الرحيل المر تعطيني أمل ،،
    وقبل الغياب وتبتعد خذني معاك ،،
    بترك عناي وغربتي ،، خذني في النسمه ،،
    ولا في البسمه ،،
    ولا في أهدابك بعيش ،،
    ولا في اعيونك غريق ،،
    حتى نهاية رحلتي ،،

    ردحذف
  14. سناء

    الله الله عليك
    كلماتك لامست قلبي
    وأنا متأكدة أنها ستلامس قلب كلّ من يقرؤها

    ردحذف
  15. عبدالعزيز العرابي

    أخي وصديقي
    من أراد الرحيل لأسباب خارجة عن رغبته، علينا أن نلتمس له العذر
    ومن أراد أن يرحل بر غبةٍ منه فليرحل غير مأسوفٍ عليه..

    ردحذف
  16. منار الغامدي

    وبسذاجتنا المعهودة، نبدأُ رحلةَ البحث عن جُرحٍ جديد، ينسينا الجُرحَ القديم الذي لم يبرؤ، ولم يتوقّف نزيفُه بَعْد.

    مقال جميل يحكي واقع الأعلبية الآن.

    ردحذف