يوسف بخيت الزهراني
لماذا يَرحلون بِلا سَبب؟! *
في كثير مِن الأحيان، نعتقد أنّ قلوبَنا محصَّنةٌ ضدّ الحُب، عاليةٌ أسوارها، منيعة أبوابها، لا يقوى على القفز فوق تلك الأسوار أحد، ولا يجرؤ على اقتحام هاتيك الأبواب إنسان، وفي حالة مِن اللا وعي، تصيبنا سهامُ الغرام، ونسقط في شِباك الحُب، ويغدو حالُنا كحال الحمامة المطوَّقة، التي قرأنا قِصتَها صغاراً، كلما حاولنا الفكاك مِن الشبكة زاد التفافُها حولنا.
نهرع لأحبائنا نلتمس منهم العون، فنجِدهم لا يقلّون عنّا حيرة، ينظرون إلينا بعيون تائهة، ويخاطبوننا بصوت متقطع، يبثون لنا لوعاتهم، ويشاركوننا آهاتهم، وفي كلّ مرّة يبقَى حالُنا على ما هو عليه، وعلى المتضرِّرين اللجوء إلى محكمة الحُب، التي لم تنصِف العُشاقَ في سالف الزمان، وأحسبها لن تفعلَ ذلكَ أبداً.
وفي دروب اللهفة، نَفقد بعضَ مَن بادلونا الحُب، هذا الفقد المنطوي على عظيم الألم، تتعدّد أسبابُه، وتتنوّع ظروفُه، فبعض الأحباب رحل مُرغَماً لا مختاراً، أما الأعظم خطأً والأفدح جُرماً، فهُم الذين شرّعنا لهم أبوابَ قلوبِنا، ونوافذَ أرواحِنا، واستودعناهم أثمنَ أسرارِنا، ثُمّ تركونا فجأةً في منتصف الطريق، تعصفُ بنا رياحُ الشتاء الباردة، بلا جُدرانٍ تحمينا، وتلفحُنا شمسُ الصيف الحارقة، بلا سقفٍ يظلّلنا، فقد انهار منزل المحبة، تهاوت حيطانُه، وخرّ سقفُه، وتشرّد سكانُه العشاق في متاهاتِ الهَجر وطُرقاتِ الضياع.
وبَعْد أن كانت أسرار الحُب مخبوءةً بينَ ضلوع المحبين، وفي أعماق أرواح الهائمين، إذ بها باتت أحاديث السمّار، وقصصاً يتناقلها الركبان، يزيدون فيها وينقصون، وينسجون مِن خيالاتهم أموراً لم تحدُث، بل يستحيل حدوثها.
وتمضي حلاوةُ العمر، وتبقى مرارةُ الأسئلة: لماذا رحلوا بلا سبب؟ لماذا مزّقوا قلوبَنا بوعود الوفاء الكاذبة، لماذا داسوا على مشاعرِنا وسحقوها؟ لماذا نثروا أحلامَنا تذروها الرياح؟ لماذا تبخّرت وعودُ الحُب ومواعيدُه؟
ويستمر المحبون المنسيون، في ترديد أبيات الشاعر إبراهيم ناجي، رحمه الله، مِن قصيدة الأطلال:
يا غراماً كان مِنّي في دَمي قَدَراً كالموتِ أو في طَعْمِهِ
ما قَضينا ساعةً في عُرسِهِ وقَضينا العُمرَ في مأتَمِهِ
ما انتزاعِي دَمعةً مِن عَينِهِ واغتصابي بَسمةً مِن فَمِهِ
ليتَ شِعري أينَ مِنهُ مَهرَبي أينَ يَمضي هاربٌ مِن دَمِهِ؟
وتتزايدُ الأسئلةُ الموجِعة، لتَصنع فجواتٍ في القلب والعقل، ومساحاتٍ فارغة في الروح، تؤلمُنا كلّما مرّت ذكرى الفراق، وتجمّعت غيمات الحنين، لتذوي الأجسادُ شيئاً فشيئاً، وينطفئ سراجُ اللقاء، وتغمر العتمةُ زوايا الذاكرة، وتتلاشى مواعيدُ الفرح.
وبسذاجتنا المعهودة، نبدأُ رحلةَ البحث عن جُرحٍ جديد، ينسينا الجُرحَ القديم الذي لم يبرؤ، ولم يتوقّف نزيفُه بَعْد.
هذا مع يقينِنا بأنّ الأشياءَ الجميلةَ لا تستمرّ، أعمارها قصيرة كأعمار الفراشات، تمضي سريعاً كأحلام ليالي الصيف، وتتركنا نقلّب دفاترَ ذكرياتِنا، ونحاولُ العيشَ مع ما بقي مِن تفاصيلِها، بصحبة ابتساماتِنا التي فَقدتْ طعمَها، بَعْد أنْ فَقَدْنا مَن كان يرسمُها على شِفاهِنا.!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@
بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سُميّة
ردحذفمقال رائع جداً
كل طرق الرحيل موجعة مهما كانت أسبابها
سَمَر
ردحذفمقال جدًا جميل وراقي ..
من يحبنا ويريدنا بصدق لن يرحل ويتركنا ..
شكرًا لك .. بإنتظار القادم المميز ان شاء الله
خريف العمر
ردحذفهكذا هو دستور الحُب يتوارثه من قوانين الحياة
لاشيء يستمر كما كآن
والبلاء أننا علمناذلك ولم نتعلم
وسيبقى الحب قدرٌ جميل والفراق عاقبته..
عُمر الحازمي
ردحذفالله عليك يا كاتب الحب..
يوسف الزهراني يتجلّى بمقال رائع عن الحب.
ليلى
ردحذفوتمضي حلاوةُ العمر، وتبقى مرارةُ الأسئلة: لماذا رحلوا بلا سبب؟ لماذا مزّقوا قلوبَنا بوعود الوفاء الكاذبة؟!
روعة يا صاحب المداد الفذّ!
إني راحلة
ردحذففلسفة الحب ،أعمق ما يمكن الكتابة عنه ..
ما أجملك !!
أمل زللي
ردحذفسيأتي يوم وتجد من يضحي من أجل ابتسامة يرسمها على وجهك، فلا تغلق أبواب قلبك فليس كل من يدقها ينوي جرحها..
هناء
ردحذفالأشياءالجميلةعمرها قصير، ولكنها تهب العمر أضعافا والبعض منها يخلد مدى العمر..
زهر ينبع
ردحذفكتابة رائعة وأسلوب أروع
كم تشعر قلوبنا بمرارة الفراق...
ميسون السعيد - الأردن
ردحذفمبدع بإحساسك، وصادق بمتلازمة الحُب والرحيل.
نورة إبراهيم
ردحذفمقال كلّه مشاعر
تستحق الشكر عليه
أحلام الزهراني
ردحذفأجمل من الجَمال.. قرأتُه مرتين
صحيح.. لماذا يرحلون بلا سبب؟!
ويتركون وراءهم آلاف المواجع؟!
جميل ما شاء الله
وليس بغريب عليكَ أستاذي
عوض آل شقاف
ردحذف""""" هذا قدري """""
ســكه طويـــلـة اناظر المشوار بعيد عن عيني بعيد ،،
فــيـنـي ألم وأنواع الصبر والحيرة زادتني ضياع ،،
ماعــاد بقوى وتعبت ابنقل خطوتي ،،
خايف ومرعوب ،،
تدرين بعدك صابني هم السنين ،،
كانت معاي والفرحة تجمعنا سوا ،،
وكانت تقول الحب هو لأجلك بقى ..
وفي عز شوقي خانتني الأحوال ،،
وما كفى مني وفاء وما عاد بدري ،،
ليه الفراق !! يوزع اوراق اللقاء ،؟؟
وليه خيبات الزمن !! تسرق امانينا جفا ،؟؟
وليه الدموع!! تنظر لوقت البسمه وتغتالها ، ؟وكيف الشموع بتنطفي وقت اللقاء ،،!!
وليه الدروب ابعاد وافراق وشتاء .،!!
عجزت ابفهم كان الوعد منها وهم ،،!!
ياصوتي المبحوح
ياقلبي المجروح
ياعمري الضايع هباء ،،
ماعاد لي غير امنية ،،
قبل الرحيل المر تعطيني أمل ،،
وقبل الغياب وتبتعد خذني معاك ،،
بترك عناي وغربتي ،، خذني في النسمه ،،
ولا في البسمه ،،
ولا في أهدابك بعيش ،،
ولا في اعيونك غريق ،،
حتى نهاية رحلتي ،،
أزال المؤلف هذا التعليق.
حذفسناء
ردحذفالله الله عليك
كلماتك لامست قلبي
وأنا متأكدة أنها ستلامس قلب كلّ من يقرؤها
عبدالعزيز العرابي
ردحذفأخي وصديقي
من أراد الرحيل لأسباب خارجة عن رغبته، علينا أن نلتمس له العذر
ومن أراد أن يرحل بر غبةٍ منه فليرحل غير مأسوفٍ عليه..
منار الغامدي
ردحذفوبسذاجتنا المعهودة، نبدأُ رحلةَ البحث عن جُرحٍ جديد، ينسينا الجُرحَ القديم الذي لم يبرؤ، ولم يتوقّف نزيفُه بَعْد.
مقال جميل يحكي واقع الأعلبية الآن.