السبت، 27 فبراير 2016

سُمّ العادة

يوسف بخيت الزهراني

سُمّ العادة *

لماذا يتسلّل المللُ إلى حياتنا؟ ولماذا يداهم السأمُ العلاقات بين الأزواج والأقارب والأصدقاء؟ سؤالان مهمان يتطلبان وعياً شاملاً وتأملاً عميقاً للوصول إلى إجابتهما، وأنا لا أدّعي امتلاك الوعي والتأمّل، لكن الأمر يستحق محاولة الإجابة مع حضراتكم، لعلنا نصل جميعاً إلى النتيجة المبتغاة.
هناك أسباب عديدة لما يعانيه كثير مِن الناس مِن ملل وسأم، لكن أخطر تلك الأسباب ـ برأيي المتواضع ـ هو أننا نمارس حياتنا اليومية برتابة قاتلة، وكأمور اعتيادية نفعلها بشكل آلي، بلا رغبة فعلية ومحبة حقيقية.
قرأتُ في زمن قديم هذه العبارة الآسرة بمعناها: منتهى السعادة أن تصبح موهبتك هي وظيفتك، وحبيبتك هي زوجتك، وأمَلك هو إيمانك، وحلمك هو شغفك.
في بداية تعلّم الإنسان أيّ أمر، مثل قيادة السيارة أو الكتابة على جهاز الكومبيوتر الشخصي ـ كهذا الذي أكتب لكُم عليه ـ أقول: في بداية تعلّم الإنسان هذين الأمرين أو غيرهما، فإنه يركّز جُلّ اهتمامه على الخطوات الأساسية، ولعله يجد نشوة في بداية الممارسة، ولكن مع الوقت تصبح هذه الأفعال (روتيناً) اعتيادياً، يؤديه الشخصُ حتى أثناء تناوله الطعام أو الحديث مع مَن بجانبه.
وهذا المثال يحاكي ـ كثيراً ـ حياة الإنسان، حيث يجد سعادة في بداية العلاقة الإنسانية، سواء كانت زواجاً أو صداقةً أو في وظيفته ومع زملائه، ثم يلعب الزمن لعبته بغير إدراك مِن صاحبنا الإنسان، فتتحول العلاقات بفعل العادة إلى سُمّ قاتل، يجلب له كآبة لا يَعرف لها سبباً.
ولا يقِل سُمّ العادة خطراً، إذا وصل للعبادة وأفسد روحَها وقضى على الهدف الحقيقي منها، وهو إصلاح الأخلاق وتهذيبها، وحُسن المعاملة مع جميع الكائنات والإحسان إليها، وفي آيات القرآن الكريم الكثير مِن الشواهد على ذلك، يقول الله عز وجل «إنّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر»، ويقول سبحانه «يا أيها الذين ءامَنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين مِن قبلكم لعلكم تتقون».
إنّ التقوى والإنسانية هُما هدفا العبادة في أسمى وأنقى معانيها، وحين تتحول عباداتنا لمجرد أفعال وأقوال معتادة؛ فإن أخلاقنا وأحوالنا لن تنصلح ولو قضى أحدُنا حياتَه مصلياً صائماً، إلا إذا تداركنا أنفسنا، وكان لعبادتنا أثر إيجابي، ينعكس على أقوالنا وأفعالنا وردّات أفعالنا.
قد يقول لي قارئ كريم: تأخرتَ كثيراً يا يوسف، فسُمّ العادة قد خالَط علاقاتي، وأَفسَد طَعم حياتي، وذهب بروح عبادتي، ولن أَكذب عليه حين أجيبه: يا عزيزي، ما دام أنّ أنفاسك تتردّد بصدرك فالحياة أمامك، ونوافذ الأمل مشرعة بوجهك، وخطوط العودة مفتوحة دائماً كما يقال، فتوكّل على خالقك العظيم الرحيم، وانشغِل بإصلاح أمورك، وتدارك ما فاتك، وعِش حياتك بالرضى والطمأنينة، وتأكّد أنك مهما بالغتَ في أمنياتك، فهناك مَن يعلَم السر وأخفَى، وأمْر الكون لديه جلّ شأنه في حرفين: «كُن فيكون».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك 20 تعليقًا:

  1. خالد الشريف ـ جدة

    الأستاذ الفاضل
    يوسف بخيت الزهراني
    السلام عليكم
    أتابع مقالات حضرتك باستمرار، وأتابع حسابك بتويتر.
    ألاحظ في جميع كتاباتك الإبداع والانفراد والتميّز في اللغة والأفكار والأسلوب عن بقية الكُتاب حتى الكبار والمشهورين منهم.
    وأعتقد أنّ ما تكتبه انعكاس صادق لروحك الطيبة وتفكيرك الرائع.
    ما شاء الله لا قوة إلا بالله
    أتمنى لك مزيد التوفيق.

    ردحذف
  2. سماء محمد ـ القاهرة

    هذا المقال الجميل للأستاذ يوسف يُضاف إلى مقالاته السابقة التي تمتلئ بالإبداع.
    شكرًا لكاتبنا المتقدّم دائما عن غيره.

    ردحذف
  3. سارة الغانم ـ الكويت

    صحيح يا أستاذ يوسف
    العادة سُم قاتل لكلّ الأشياء الجميلة في حياتنا.
    أحييك وأشكرك على هذا المقال.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  5. محمد الكناني ـ الباحة

    كتابات أستاذنا يوسف قريبة من عقولنا وقلوبنا.
    وتعكس الروح الطيبة والأخلاق الراقية لهذا الكاتب الراقي.
    شكرًا من القلب أستاذ يوسف.

    ردحذف
  6. أزهار الكرز

    أحرق حقول الروح حتى غدت يبابا.!

    بوح يستحقُ التقدير

    ردحذف
  7. ذات بياض

    منتهى السعادة أن تصبح موهبتك هي وظيفتك، وحبيبتك هي زوجتك، وأمَلك هو إيمانك، وحلمك هو شغفك.
    رائع دائماً ماتُبهرني يا أستاذ يوسف.

    ردحذف
  8. مُنى - جدة

    مقال واقعي يحاكي ما يعيشه الإنسان العربي
    و كما قيل: خير عادة أن لا تعتاد عادة
    ودّي واحترامي
    مُنى

    ردحذف
  9. نوال الصديقي

    مقال رائع
    كلامك صحيح أستاذي المحترم
    جزاك اللّٰه كل الخير.

    ردحذف
  10. منال العتيبي

    وكم يؤذيني هذا الروتين الغالب والمتسيد على كثير من أحوالنا ، عزم همة تشجع لفتح المدارك هدا جلُّ مانريده ،
    سلِم البنان والفكر أستاذي

    ردحذف
  11. مُنى

    مقال يلامس حياة الكثير ����
    جميل أن تجعل عادتك ألا تجعل لنفسك عادة ،فالعادة تجعل من صاحبها نسخة مكررة دون متعة

    ردحذف
  12. منال العتيبي

    الاعتيادية تفشت بيننا ولو لم نواجهها بذات الروح المنتشية في البدايات ستتغلب علينا، وهذا ماعرجتَ عليه في بداية المقال.

    ردحذف
  13. لؤي الزهراني

    #مقال رائع لكاتب متميز إبداعا وأخلاقا
    شكرا أستاذ يوسف
    شكرا #صحيفة_الرؤية
    شكرا لرئيس تحريرها
    الأستاذ محمد التونسي

    ردحذف
  14. محمد الفارس - أمريكا

    مقال جميل جدا للأستاذ الأنيق: يوسف الزهراني
    وفكرة عميقة مع لغة فريدة وأسلوب يتميز به كاتبنا الرائع
    بالتوفيق دائماً إن شاء الله.

    ردحذف
  15. أمل

    الكثير يمارس عبادات أصبحت عنده عادات، فقدت جوهرها الأصلي كما أشار إليه القرآن الكريم، وهو التقوى وإصلاح الأخلاق وتهذيبها، بدليل أول عارض أو موقف يتعرض له ينسى أنه صائم أو للتو خارج من المسجد.
    روتين العادات أو كما أسميته يا أستاذ يوسف: سُم العادة، هو الخوف من الجديد والتجديد، وكأن الجديد انتقاص للشخصية.
    ولو سألت بطريقة عشوائية مجموعة من الناس متى قام بآخر رحلة أو تغيير في حياته، لقال لك: انسى، ما في شيء بيستاهل.!
    أو يقول لك: الآن وقد غزى الشيبُ مفرقي؟!
    كأن وظيفته أصبحت انتظار الموت فقط.!
    هنالك خوف وجبن معشش فينا، خوف من التجديد، خوف من كلّ جديد..
    لا بد من كسر هذا الخوف والوهم، لابد من خطوة أولى.

    ردحذف
  16. عبدالرحمن أحمد - الرياض

    جميل جدا أستاذ يوسف
    مقال ينبض بالصدق والواقعية
    أشكرك مع أطيب أمنياتي لك بالتوفيق

    ردحذف
  17. عبير الزهراني

    كاتبنا المذهل الأستاذ يوسف
    مقالاتك وتغريداتك تلامس الحقيقة
    وتعبّر عنا بأصدق العبارات وأجملها
    تستحق كلّ هذا الثناء من القراء الذين أحبوا فيك رقيّ الأخلاق وتفرّد الإبداع.
    وفقك الله ورعاك.

    ردحذف
  18. د. خالد عبدالله - البحرين

    المقالات الرصينة التي يكتبها الأستاذ يوسف تستحق العناية بها، من حيث القراءة والاحتفاظ بها ومراجعتها من وقت لآخر.
    فهي تشخص الكثير من أحوال الإنسان، وتسلط الضوء عليها بطريقة عبقرية من كاتبنا الجميل.
    فشكراً جزيلاً له.

    ردحذف
  19. أحمد - تبوك

    الله الله على جَمالك يا أستاذ يوسف
    في انتظار جديدك دائما
    وفقك الله..

    ردحذف
  20. سعيد المنهالي - أبو ظبي

    لماذا يتسلّل المللُ إلى حياتنا؟ ولماذا يداهم السأمُ العلاقات بين الأزواج والأقارب والأصدقاء؟

    سؤالان مهمان أجبتَ عنهما يا أستاذ يوسف بكلّ اقتدار وإبداع
    تحيتي وتقديري لك.

    ردحذف