السبت، 30 يناير 2016

اِسأل عنّي.!

يوسف بخيت الزهراني

اِسأَل عنّي.! *

سُمِّي الإنسانُ بهذا الاسم لأنه يَنسَى، قال الشاعر قاسم الشيراوي رحمه الله: وما سُمّي الإنسانُ إلا لنسْيهِ .. ولا القلبُ إلّا أَنهُ يَتقلّبُ، وهناك مَن قال: تسمية الإنسان مشتَقة مِن الأُنس، وهذه حقيقة تؤكّدها مسيرةُ الإنسان التأريخية، فهو كائن اجتماعي كما تصفه العلومُ الإنسانية، يَأنس بغيرِه، وغيره يأنس معه.
أما عزلة الإنسان فهي فِعل اختياري، يَحدُث لأسباب تنتهي العزلةُ بانتهائها، ليعود الكائنُ البشري إلى مخالطة مجتمعه مِن أُسرة وأصدقاء وغيرهم، يجد نفْسَه قوياً بينهم، يشاركهم الحُزن والسعادة والمعرفة.
في المجتمع الإنساني تمتدّ جسورُ العلاقات بين البَشر، فهذه عائلة وأقارب، وهؤلاء جيران وخلّان، وأولئك أصحاب وأحباب، تربطهم جميعاً أواصرُ المحبة ووشائج القُربى ومعاني البِر والإحسان.
على حين غِرة، تأخذنا همومُ الحياة ومشاغلُها التي لا تنتهي، لتبعدنا زماناً ومكاناً، قليلاً أو كثيراً، عن قريبٍ وحبيبٍ، أو عن صاحبٍ وصديق، فتتسلّل الوحشةُ لقلوبهم وقلوبنا، ونقترب أو نكاد، مِن نسيان ملامح وجوههم التي كانت لا تفارِقنا.
وفي مساحات البُعد وأزمنة الفراق، تأتينا الأسئلةُ مِن أعزائنا معطَّرةً بالودّ، وتصلنا رسائلُهم مغلَّفةً بالشوق، تُشرق بها شاشات هواتفنا، فتسري البهجةُ لقلوبنا المنهكَة، ويشعّ السرورُ بأعيننا الغارقة في دموع أحزانها. ربما لا تتعدّى إحدى المكالمات أو رسائل المحبة كلمتين: اشتقتُ إليك. لكنّ اتصالاً سريعاً، أو رسالة حُب قصيرة كفيلة بتبديد ظلام أحزاننا، ورسْم الابتسامة على شفاهنا. ومهما اختلفت كلمات الرسائل والاتصالات وتنوعتْ بينَ المحبِّين، فإنّها تريد القولَ لقارئها وسامعها: أنا أُحبك.
هذه طبيعة الإنسان، يشعر بقيمته إذا وجَد مَن يَسأل عنه، ويَمسح دموعَه، ويسمع شكواه، ويواسيه بكلمةٍ صادقةٍ وشعورٍ نبيل، لتتلاشى أحزانُه ويهدأ قلبُه. أما السعادة فإنها تتضاعف حين نتشاركها مع مَن نحبهم، فنفرح بما تحقق لنا، ثم نفرح إذا حَضر صديقٌ أو اتصل ليفرح معنا ويهنئنا بمناسبة وكأنّ الأمرّ يعنيه تماماً.
وكَم يتعاظم الأجرُ إنْ شاء الله، عندما يَسأل أحدُنا دائماً عن أُمّه التي قضت زهرة عُمرها في تربيته ورعايته، ويزورها مهما بذل مِن عناء في سبيل الوصول إليها، ولا يَنسى أبداً السؤال عن أبيه وزيارته، فهو الذي ضحّى بصحته وراحته ليرتاح أبناؤه وبناتُه ويَسعدوا. ولا تُهمِلوا السؤالَ عن أقاربِكم، خصوصاً اليتامى وكِبار السنَ والمحتاجِين مِن أرامل وفقراء، ومَن أَقعدهم المرض.
وتعالوا نقرأ هذه الأبيات، التي أحفَظها منذ زمنٍ طويل ولَم أتوصّل لمعرفة قائلها:
يا مَن ينوحُ فؤادي خَلْفَ مَوكِبِهِ
ومَن ترفرفُ روحي حَولَ مَغْناهُ
ماذا تَرَكْتَ بقلبِي بَعدَ ما نَسَجَتْ
كفُّ الخَريفِ لهُ حَرَّى بَلاياهُ؟!
هلّا ذَكَرْتَ زماناً ظَلَّ يُسعِدُنا
نَقضي حياةَ المنَى في ظِلِّ دُنياهُ؟!
تَسعَى إلينا الأماني في ظلائلهِ
وتستخِفُّ بِنا أحلامُ دُنياهُ
ما زلتُ أَذْكُرُهُ في كُلِّ آونةٍ
رغمَ الصُّدودِ وأنتَ اليومَ تنساهُ.!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، 23 يناير 2016

وَجَع الأسئلة

يوسف بخيت الزهراني

وَجَع الأسئلة *

حين يبدأ الطفلُ في تكوين قاموسه اللغوي، تسأله أمه بسعادة: مَن أنا؟ فيجيبها بسعادة أكبر: ماما. وتجري به الشهور والأعوام، ثم يبدأ هو في طرح الأسئلة على أمه وأبيه ومَن يشاركونه المنزل، ولا يترك الطفل أداة مِن أدوات الاستفهام إلا ويستخدمها.
وكلما زاد عُمر الإنسان ووعيُه؛ تزايدت أسئلتُه، وراح يراجع الإجابات القديمة، يَستبعد منها الإجاباتِ الخاطئة والوهميّة، والتي قد يكون بَنى عليها مواقفَ خاطئة واعتقاداتٍ واهمة، قادتْه بالضرورة إلى دروبٍ صعبة أو طويلة، ولا تقلّ الخسارةُ حين قادته تلك الإجابات إلى اللا شيء. لكن أكثرَ الأسئلة حيرةً في حياة الإنسان، هي التي تبدأ بأداة الاستفهام: لماذا، ولا تسألوني: لماذا؟ هكذا طبيعة الحياة ومواقفها، حتى وأنا أكتبُ هذه السطور، أسأل نفْسي: لماذا أكتب؟ وسأتجاوز الإجابةَ عن هذا السؤال تحديداً؛ لأني أجبتُ عنه في مقال بعنوان: أسئلة الكتابة.
ربما كان السؤال بـ «لماذا» صعباً ومحيِّراً، لأنه يبحث عن الأسباب ويجري وراء الحقيقة الضائعة، التي يدّعي الجميع امتلاكها، ويضع السائلَ والمسؤولَ في دوائر مغلَقة لا خروج منها إلا بالصدق، ولا شيء غير الصدق.
الحياة سؤالٌ كبير، تتفرّع منه أسئلةٌ لا تنتهي، وكأنّ حياتنا شجرة ضخمة، والأغصان هي الأسئلة التي تتفرّع بلا توقف، أما الثمار اليانعة فهي الإجابات التي نَسعى إلى قطفِها.! ومتى ما نجح الإنسانُ في الإجابة عن أسئلة الحياة، فإنه بإذن الله تعالى سيسير في بساتينها سعيداً هانئاً راضياً، لا تخيفه النوائبُ ولا تهزه العواصف، فهو ثابت اليقين عميق الإيمان واثق الخطوات.
وعندما يبني الإنسان أفكاره ومعتقداته على قواعد ثابتة ورؤى واضحة، فإنّ بنيانه يعلو شامخاً يطاول السحاب، ويقابل الشمس ويعانق الضياء، ويرسم حياتَه لوحةً زاهية الألوان. وتمتدّ رحلةُ الإنسان في البحث عن الحقيقة لتستغرق عمره بأكمله، يخفق حيناً وينجح حيناً، وربما ينشغل في جزء مِن عمره بالبحث عن إجابات لأسئلة لا قيمة لها، ويلهيه ذلك عن تحصيل إجابات الأسئلة المهمّة.
الخطير في رحلة البحث عن الحقيقة والمعرفة، أن نتوهّم امتلاكهما مِن أشخاص بعينهم، واحتكارهم لهما دون غيرهم، فالحقّ ما قالوا والصواب ما فَعلوا، بينما هُم يخبطون خبْط عشواء، ولا يفرّقون بين النقير والقطمير.
لا أحد يعترض على اتخاذ القدوة مِن الناس، أو ما يُوصف بالمثل الأعلى، ولكن حتى الشخصية التي قد نرى فيها مثالاً كاملاً فهي لا تحيط بكلّ شيءٍ عِلماً، فإدراكها يقتصر على جوانب تخصّصها وتجربتها فقط.
ولهذا فإنّ تعدّد قدوات الإنسان في مجالات عدة، يشكّل شخصيته ويثريها ويصقلها على نحو أفضل وأجمل، مع الأهمية الكبرى لإنضاج الفرد لتجربته الذاتية، والتعلّم مِن المواقف الحياتية المتنوعة، وصولاً إلى تكوين قناعاته الخاصّة. وتمضي الحياة، ويبقَى أشَدّ الأسئلة وجعاً تلكَ التي نَعرفُ إجاباتها، لكنّنا لا نَقوَى على النطقِ بها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، 16 يناير 2016

صَديقي .. دَعني أتنفّس

يوسف بخيت الزهراني

صَديقي .. دَعني أَتنفّس *

الصداقة رابطةٌ إنسانية وثيقة وعميقة، عند مَن يَعرفون قيمتَها ويحترمون عهودَها، وخير دليل على صحة هذا القول أنّ الله تعالى خلّد تلك الصحبة العظيمة بين نبيّنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلّم، وبين سيّدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فقال الله تعالى «إذ يقولُ لصاحبِه لا تحزن إنّ الله معنا».
نَعم، الصداقة رباط روحي قوي، يشدّ أرواحَ الأصدقاء لبعضها، بل يمزجها لتصير روحين في روح واحدة، يشعر فيها الصديق بآلام صديقه، ويشاركه فرحته، وكأنّ الحُزن حزنه والفرحة فرحته تماماً.
وهنا لا مبالغة في القول، حين نسمع أنّ كثيراً مِن الأصدقاء يستشعرون ما يختلج في نفوس أصدقائهم مِن مشاعر، حتى قَبل أن ينطقوا بها وتفصح بها ألسنتهم، وهذا سر مِن أسرار الصداقة النقيّة الراسخة، التي لا تلوّثها المصالح، ولا تغيّرها الظروف!
للصداقة عهود يَعرفها ويرعاها الأصدقاء الحقيقيون، تتعدّد لتشمل الوفاء بالوعود حسب الاستطاعة، وكتمان السر، وحِفظ الأمانة، والثقة الأبدية بين الصديق وصديقه، وبذل النصيحة بكلّ إخلاص، ويظلّل كلّ ذلك سحابة بيضاء، تهطل نُبلاً ومَحبةً وثِقةً، لا تفنَى ولا تزول ولا تتبدّل!
هناكَ مَن يَعتقدون بأنّ مِن حقهم التواصل مع أصدقائهم، ومناقشتهم في كلّ شيء متى وأينما شاءوا، وهذا مزلق خطير وخطأ فادح، يقضي على مساحات الصداقة الخضراء، وينقض عُراها الوثيقة.
يا معشر القراء الكرام والقارئات الكريمات، عندما يبوح لنا صَديق بسرّه فهو قد اختار البوح بإرادته ورغبته، لكنّ ذلك ليس مبرراً يجعلنا نلحّ في السؤال عن كلّ أمر يعنيه، خصوصاً إذا كان لا يرغب الحديث عنه.
وعلاقة الصداقة الحقيقية لا تجيز لنا الاتصال بأصدقائنا في كلّ حين، بحُجة أنّهم أصدقاؤنا ولن يزعجهم اتصالنا بِهم، ولو كنّا نعتبرهم كذلك حقيقةً لما أقلقنا راحتهم، وكدّرنا أوقاتَهم بكثرة طلبهم على الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة.
على الصَّديق الواعي أن يتحلّى بما يُسمَّى بالذكاء العاطفي، ولهذا النوع مِن الذكاء تعريفات كثيرة، سأكتفي بواحد منها وهو: قُدرة الإنسان على التعرّف على مشاعر الآخَرين، وعلى مشاعره الشخصيّة، وذلك لتحفيز نفْسِه، وإدارة عواطفه بشكـل سلـيم وجيّد في علاقته مع الآخَرين.
وتتسع دائرة الذكاء العاطفي لتشمل العلاقة بين الأزواج، وبين الأب والأم وأولادهم، وبين الناس جميعاً على اختلاف الروابط والأماكن التي تجمعهم، سواء كانت واقعية أو افتراضية عبْر وسائل التقنية الحديثة.
والصديق الذكيّ هو الذي يراجع علاقته بصديقه دائماً، ويتفقّد مواضعَ قوة الصداقة فيستمر عليها، ويلاحظ ما تقادم منها ويجدّدها، ويكفي في ذلك اعتذار صادق وكلمة إطراء وهدية معبّرة، تضخّ دماء المودّة في شرايين الصداقة، وتدعم بنيانها.
أحياناً، لا بأس بالابتعاد المؤقَّت عن الذين نحبهم، بل إنه أمر ضروري، فلا تخنقوا أحبابَكم، وامنحوهم بعضَ الخصوصية، ليبقَى الحُب وتدوم الصداقةُ وتتجدّد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأحد، 10 يناير 2016

في بيتِنا القديم.!

يوسف بخيت الزهراني

في بيتِنا القديم.! *

دون موعد سابق، تقودنا الأقدار وتحملنا الأقدام إلى أماكن لا نتوقع أننا سنعود إليها ذات يوم، لا لسبب محدَّد، ولكن لظننا أن ذكريات تلك الأماكن قد رحلت، وبالتالي فما معنى العودة إليها بلا ذكريات ولا ذاكرة؟
بمجرد وصولنا إلى تلك البقعة العزيزة، تنهال غيمة الذاكرة بمواقف لا تنتهي، تروي عطش القلب وظمأَ الروح وجفاف الوجدان، وتختلط مشاعر الأشجان والحنين.
ماذا أقول والعبرات تترقرق؟ ماذا أحكي والشوق يعود بي إلى سني طفولتي؟ ماذا أكتب والمواقف تزدحم في العقل؟ فأنا سأتحدث بالضرورة عن بعض ذكرياتي مع والدي رحمه الله.
أفتح الباب الصَّدِئ لمنزلنا القديم، أنقل بصري وخطواتي في حجرات البيت المعدودة، يا الله .. هنا كان يجلس أبي ـ غفر الله له ـ يفتح مذياعه في ليالي الصيف المنعشة وينصت إليه باهتمام، وفي المكان ذاته كنا نجلس معه جميعاً لتناول طعام الإفطار في شهر رمضان.
يا الله .. كأني أستمع إلى صوت أبي ـ عليه شآبيب الرحمة ـ يَعبر روحي، يحثنا على مذاكرة دروسنا، أو يوجّه المخطئ، ويثني على المصيب، ويسأل عن الغائب منّا عن نظره، سقى الله عهده من زمن.
لن أنسى ذكرياتي في منزلنا القديم مع أمي الحبيبة ـ رعاها الرحمن ـ سيدة القلب الأثيرة، وصوت الحب الذي امتلأت خلايا جسدي بنغماته، وأول وجه رأته عيناي وفاضتا بمحبته، وهل ينسى الإنسان نفسه؟
أُمي ـ أَمدّها الرحمن بموفور الصحة ـ كانت ولا تزال نور منزلنا وساعته المنضبطة، تستيقظ باكراً، وتوقظ النائمين لأداء صلاة الفجر ثم الاستعداد للمدرسة، وبين كل لحظة وأخرى، تصل إلى مسامعنا دعواتها النديّة لنا بالحفظ والتوفيق.
نعود إلى منزلنا ظهيرة، تستقبلنا أمي بمحبة، ترسل أحدنا بطبق من الطعام إلى الجيران الطيبين، ليعود الطبق ذاته مملوءاً بطعام من عندهم.
في ليالي الشتاء نجتمع حول أمي، نتدفأ بحكاياتها التي لا تكاد تنتهي، يتلاشى الزمن، ويبقى صوت أمي الساعة التي تحدّد موعد خلودنا للنوم.
أما أيام الإجازات، فهي لي ولبقية إخوتي الأعزاء وأخواتي العزيزات منتهى السعادة والانطلاق، ومساحة حُرة للّعب وبعض العبث الطفولي.
جلستُ على عتبة الباب الداخلي وسرح عقلي بعيداً، ما أدهشني في منزلنا الصغير الجميل هو ضآلة مساحته. نعم، بعد كل هذه الأعوام، لفت نظري أن منزلنا القديم صغير مقارنة بمنازل اليوم، أقطع فيه بضع خطوات من طرفه إلى طرفه .. يا الله .. كل تلك الطفولة الصاخبة بفصولها المتعددة ومشاهدها الكثيرة كان مسرحها هذه المساحة الصغيرة!
وأنا أفكر وأتأمل غرف البيت الصغيرة، تيقنت أن أجمل اللحظات وأسعد الأوقات وأغلى الذكريات يمكن أن تضمها مساحة مكانية ضئيلة، لكن الاعتبار كل الاعتبار يبقى لمساحة العقل والقلب التي يجب أن تمتد إلى ما لا نهاية لتستوعب عمراً بأكمله من الفرح والنقاء.!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، 9 يناير 2016

الإنسان .. وقود الحُروب.!

يوسف بخيت الزهراني

الإنسان .. وقود الحُروب.! *

في زمن الحرب كل شيء تزداد قيمته إلا الإنسان، فإنه يبقى الأرخص، هذه حقيقة عرفناها منذ زمن طويل، وهي حقيقة مؤلمة، فكلما نشبت الحروب العبثية واشتعلت الفتن في أي مكان وزمان؛ أصبح الإنسان وقوداً لها، مع مسكنه ومزرعته ومصنعه ومدرسة أطفاله ومستشفاه، يا لحظ الإنسان التعيس على هذه الأرض، يبحث عن السعادة ويفتش عن الأمل، بينما ينشغل تجّار المعارك بالتخطيط لتبديد تلك السعادة وزوال ذلك الأمل، يقول المتنبّي في بيته الشهير:
كلّما أنبتَ الزمانُ قناةً
رَكَّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا
والمعنى باختصار، كل غصن شجرة ينمو، يبادر الإنسان إلى تحويله إلى رمح يقاتل به، ويكفي للتدليل على صحة ذلك أن ضحايا الحرب العالمية الثانية التي استمرت ستة أعوام تجاوز 60 مليون قتيل.
ومع ما تبذله المنظمات الإغاثية التابعة لهيئة الأمم المتحدة من جهود ضخمة، إلا أن الفجوة تبقى واسعة بين الواقع والمأمول، فنزيف اللاجئين يزداد مع الأعوام حسب إحصاءات تقرير الأمم المتحدة ذاتها، عن عام 2015 والذي تضمن أرقاماً مخيفة حول أعداد اللاجئين في العالم، ويظهر التقرير الذي نشره موقع BBC أن عدد من أُجبروا على النزوح من منازلهم زاد بنحو 8.3 مليون شخص عن العام الماضي.
وأورد التقرير أن الصراع السوري يُعتبر أحد أكبر العوامل وراء هذه الزيادة، إذ بلغت أعداد اللاجئين السوريين 3.9 مليون شخص، في حين بلغت أعداد النازحين داخل البلاد نحو 7.6 مليون شخص.
وقال المفوّض السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس «العالَم في حالة فوضى، والأسوأ هو أن العالَم يظن أن بإمكان المساعدات الإنسانية علاج هذه الفوضى، لكنه لم يعد أمراً ممكناً، وليست لدينا الإمكانات لإصلاح ما فسد. أعداد من يعانون في ازدياد، وللأسف لا توجد فرصة لدعم الكثيرين منهم».
وأضاف غوتيريس أن أعداد اللاجئين زادت في عام 2014 لتبلغ 42.500 شخصاً يومياً، وهي زيادة كبيرة عن العام السابق الذي قُدّرت فيه الأعداد بـ 32 ألف شخص في اليوم. انتهى النقل.
وهكذا يثبت التقرير بما لا يدع مجالاً للشك أن قيمة الإنسان تهوي كما يهوي حجر رماه طفل في الهواء، فارتدّ سريعاً إلى الأرض.
ولعلّ القارئ الكريم يسأل: وما شأني أنا بهذا التقرير؟
طبعاً أنتَ لستَ متّهماً عزيزي القارئ باندلاع النزاعات، ولكنك حين تُحسن إلى فقير أو تطعم جائعاً أو تكفل يتيماً، تكون بذلك قد دفعت زكاة ما أنت فيه من نعمة وصحة وأمن، افتقدها غيرك من ملايين البشر المحاصرين والمشردين والمنكوبين.
ويبقى الدفاع عن الأنفس والأوطان ضد المعتدين والغاصبين ونصرة المظلومين، حقاً مشروعاً لكل البشر، فما قيمة الإنسان بلا وطن يستظل بسمائه ويأكل مِن خيرات أرضه ويفديه بروحه؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاثنين، 4 يناير 2016

لماذا يَرحلون بِلا سَبب؟!

يوسف بخيت الزهراني

لماذا يَرحلون بِلا سَبب؟! *

في كثير مِن الأحيان، نعتقد أنّ قلوبَنا محصَّنةٌ ضدّ الحُب، عاليةٌ أسوارها، منيعة أبوابها، لا يقوى على القفز فوق تلك الأسوار أحد، ولا يجرؤ على اقتحام هاتيك الأبواب إنسان، وفي حالة مِن اللا وعي، تصيبنا سهامُ الغرام، ونسقط في شِباك الحُب، ويغدو حالُنا كحال الحمامة المطوَّقة، التي قرأنا قِصتَها صغاراً، كلما حاولنا الفكاك مِن الشبكة زاد التفافُها حولنا.
نهرع لأحبائنا نلتمس منهم العون، فنجِدهم لا يقلّون عنّا حيرة، ينظرون إلينا بعيون تائهة، ويخاطبوننا بصوت متقطع، يبثون لنا لوعاتهم، ويشاركوننا آهاتهم، وفي كلّ مرّة يبقَى حالُنا على ما هو عليه، وعلى المتضرِّرين اللجوء إلى محكمة الحُب، التي لم تنصِف العُشاقَ في سالف الزمان، وأحسبها لن تفعلَ ذلكَ أبداً.
وفي دروب اللهفة، نَفقد بعضَ مَن بادلونا الحُب، هذا الفقد المنطوي على عظيم الألم، تتعدّد أسبابُه، وتتنوّع ظروفُه، فبعض الأحباب رحل مُرغَماً لا مختاراً، أما الأعظم خطأً والأفدح جُرماً، فهُم الذين شرّعنا لهم أبوابَ قلوبِنا، ونوافذَ أرواحِنا، واستودعناهم أثمنَ أسرارِنا، ثُمّ تركونا فجأةً في منتصف الطريق، تعصفُ بنا رياحُ الشتاء الباردة، بلا جُدرانٍ تحمينا، وتلفحُنا شمسُ الصيف الحارقة، بلا سقفٍ يظلّلنا، فقد انهار منزل المحبة، تهاوت حيطانُه، وخرّ سقفُه، وتشرّد سكانُه العشاق في متاهاتِ الهَجر وطُرقاتِ الضياع.
وبَعْد أن كانت أسرار الحُب مخبوءةً بينَ ضلوع المحبين، وفي أعماق أرواح الهائمين، إذ بها باتت أحاديث السمّار، وقصصاً يتناقلها الركبان، يزيدون فيها وينقصون، وينسجون مِن خيالاتهم أموراً لم تحدُث، بل يستحيل حدوثها.
وتمضي حلاوةُ العمر، وتبقى مرارةُ الأسئلة: لماذا رحلوا بلا سبب؟ لماذا مزّقوا قلوبَنا بوعود الوفاء الكاذبة، لماذا داسوا على مشاعرِنا وسحقوها؟ لماذا نثروا أحلامَنا تذروها الرياح؟ لماذا تبخّرت وعودُ الحُب ومواعيدُه؟
ويستمر المحبون المنسيون، في ترديد أبيات الشاعر إبراهيم ناجي، رحمه الله، مِن قصيدة الأطلال:
يا غراماً كان مِنّي في دَمي قَدَراً كالموتِ أو في طَعْمِهِ
ما قَضينا ساعةً في عُرسِهِ وقَضينا العُمرَ في مأتَمِهِ
ما انتزاعِي دَمعةً مِن عَينِهِ واغتصابي بَسمةً مِن فَمِهِ
ليتَ شِعري أينَ مِنهُ مَهرَبي أينَ يَمضي هاربٌ مِن دَمِهِ؟
وتتزايدُ الأسئلةُ الموجِعة، لتَصنع فجواتٍ في القلب والعقل، ومساحاتٍ فارغة في الروح، تؤلمُنا كلّما مرّت ذكرى الفراق، وتجمّعت غيمات الحنين، لتذوي الأجسادُ شيئاً فشيئاً، وينطفئ سراجُ اللقاء، وتغمر العتمةُ زوايا الذاكرة، وتتلاشى مواعيدُ الفرح.
وبسذاجتنا المعهودة، نبدأُ رحلةَ البحث عن جُرحٍ جديد، ينسينا الجُرحَ القديم الذي لم يبرؤ، ولم يتوقّف نزيفُه بَعْد.
هذا مع يقينِنا بأنّ الأشياءَ الجميلةَ لا تستمرّ، أعمارها قصيرة كأعمار الفراشات، تمضي سريعاً كأحلام ليالي الصيف، وتتركنا نقلّب دفاترَ ذكرياتِنا، ونحاولُ العيشَ مع ما بقي مِن تفاصيلِها، بصحبة ابتساماتِنا التي فَقدتْ طعمَها، بَعْد أنْ فَقَدْنا مَن كان يرسمُها على شِفاهِنا.!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ