الأربعاء، 11 مارس 2015

مَواقفُ أَبي وحِكايات أُمّي

مَواقفُ أَبي وحِكايات أُمّي

يوسف بخيت الزهراني*

الإنسَانُ ابنُ بيئتِه، يتأثّرُ بها ويؤثر فيها باستمرار، والأُسرة أُولى تلك البيئات، وأكثرها تأثيراً في تشكيل الشخصيّة، وقد استقرّ في الذاكرة البيت الشِّعري الشهير:
وينشأُ ناشئُ الفِتيانِ فينا
على ما كان عوّدهُ أبوهُ
وربما اتخذ بعضُ الكُسالى والخاملين، من ذلك حُجةً لفشلهم وركونهم للخيبة في طُموحاتهم الضعيفة، وباتوا يردّدون مقولة امرئ القيس: ضيَّعني أبي صغيرا، وحمّلني دمَهُ كبيرا.
وحتى لا نقسو في الحُكم، ربما كان لكلامهم نصيبٌ من الحقيقة، لكنها ليست حقيقةً مُطلَقة، فالإنسانُ السويّ هو من يتجاوزُ إخفاقاتِه، مستعيناً بخالقه عز وجل، متسلّحاً بالعِلم والمعرفة وتجارب السنين.
وكم من والدَين لم ينالا حظاً من التعليم، وقد نبغ أبناؤهما وبناتهما، نبوغاً بات حديث الناس واستحسانِهم.
ومن باب الاعتراف بالفَضل، والشكر لله تعالى ثم لوالديّ الكريمَين، فإنّي أتقدّم لوالدتي الغالية ونُور عيني في هذه الدنيا، بأسمى عبارات الامتنان والثناء لمقامها الرفيع بوجداني، على ما بذلَتْهُ فيما مضى من سنين عُمرها المبارَك، من جميل التربية ووافر العطف والحنان، داعياً لها بطول العُمر ودوام الصحّة.
وأرفعُ أكُفّ الضَّراعة لخالقي جلّ في عُلاه، أن يتغمّد والدي ومعلّمي بواسع الرحمة، ويُسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، فلقد ضحّى بصحته من أجل أُسرته، وغادر دُنيانا عليلاً في جسده، قوياً في إيمانه، وترك في الحياة أثراً طيّبا، وذِكراً حَسناً لن ينساهُ كل من عرفه.
وكم كان رحمه الله يَفضحُ جهلي، وأنا الشاب الذي أعتقد أني أخذتُ بأنواط الحِكمة، وأسباب المعرفة.!
ولي معه - غفر الله له - مواقف لا تتّسع المساحة لكتابتها، لكن العامل المشترَك فيما بينها: النظرة البعيدة للأمور، من خلال تجربةٍ حياتيّة ممتدّة.
أما والدتي وحبيبة قلبي، فإن لها تأثيرٌ كبير على توجّهاتي الأدبيّة والفكرية، ففي حضنها الدافئ استمعتُ بشغَف مع إخواني وأخواتي للعديد من الحكايات، مما طَبع طفولتي بطابعٍ أدبي، وصَنع لي خيالاً ثَرِياً لا حُدود له، هو اليوم زادي ورصيدي اللّغوي والتصويري فيما أكتُبه وأقوله.
ولعل المُضحك هنا، أنني من حين لآخر أزحفُ على رُكبتَيّ، مقترباً من والدتي، وطالباً منها في تودّد، أن تعيد لي حكايةً مُحبّبةً بنفسي، لأن تلك الحكاية بعينها مليئة بكثير من الحيوانات، التي يؤدّي كلُّ واحد منها دوراً به دلالات، عرفتُها حين كبرت.
والمُبهج أن أمّي العزيزة، ما زالت تحكي الحكاية بذات الأداء السّاحر، وبصوتِها الذي اختزنتْهُ ذاكرتي منذ سنين بعيدة، لن أقول لكم عَددها.!
لا أَنسى أن أُضيفَ هُنا، أن أمّي - دامت عليها ثيابُ الصحّة سابغة – شاعرةٌ من طرازٍ رفيع، حاولتُ مراراً مجاراتها في بعض قصائدها، لكنّي في كل محاولاتي أنالُ هزيمةً مُنكَرة، لي الفَخر أن والدتي ألحقَتْها بي.!

ـــــــ
نقلاً عن صحيفة مكَّة (الورقيّة)

للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صُورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.

للتواصُل مع الكاتب:

تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــ
*كاتب بصحيفة مكَّة (الورقيّة)
في صفحة الرأي
كل أربعاء.

هناك 10 تعليقات:

  1. يوسف بخيت الزهراني
    الباحة ـ المملكة العربية السعودية

    السلام عليكُم
    أهلاً وسهلاً بالجَميع
    ما كتبتُه في هذا المقال هو اعترافٌ وتقدير لوالديّ العزيزَين،
    رحم الله أبي، وأمدّ أمي بالصحة وطول العُمر.
    ودعواتي لوالديكم جميعاً بأن يرحم الله ميّتهم، ويحفظ لكم الأحياء في ثياب الصحة والقوة.
    ومهما كتبتُ أنا وكتب غيري، عن الأب والأم فلن نبلغ أقل جميل بذلاه من أجلنا صغارا، بل ومازال العطاء يستمر منهما حتى ونحن أكبر سنا.
    صدّقوني أننا نبقى أطفالاً ما دام الوالدان أو أحدهما على قيد الحياة، فإذا ماتا تقدّم بنا العُمر فجأة، وانهدم بداخل قلوبنا ركنان هامان ودعامتان عظيمتان، في مواجهة هذه الحياة.
    دمتم في خير وبركة، ودام الوالدان ينبوعان للحنان والعطاء الذي لا ينضب ولاينقطع.
    يوسف

    ردحذف
  2. خالد أحمد ـ جدة

    رائعٌ أنتَ يا سفير الأمل في كتاباتك، في حسّك الإنساني الراقي، في مشاعرك الصادقة، واليوم تسطّر مقالاً يفيض بالبِر لوالديك، رحم الله أباك وحفظ لك أمك.
    لكَ محبتي وتقديري، وأتشرف بأنّي من قُرائكَ الدائمِين، وأتنقل بين مقالاتك في مدونتك الأنيقة هذه، وكذلك بالموقع الإلكتروني لصحيفة مكة الورقية.
    تقبّل تحياتي وتقديري.

    ردحذف
  3. هدى الشافعي ـ القاهرة

    الأستاذ يوسف كاتبٌ عبقري، كتاباته وجدانية، تنبع من قلبه لتصل إلى قلب القارئ، أفكاره عبقرية، بها ذكاء فطري يلاحظه كل من يقرأ مقالاته.
    تذكّروا اسم هذا الكاتب الرائع، ستجدونه في يوم من الأيام، ضمن أسماء أُدباء العرب الكبار.
    شكراً جزيلاً لحضرتك على هذا الحسّ الإنساني الراقي،
    وهذه البلاغة العذبة التي من الصعوبة أن يكون لها شبيها.

    ردحذف
  4. مريم علي ـ الكويت

    أستاذ يوسف
    مقالات حضرتك كلها روووووعة
    مشكوووور عليها ويعطيك العافية

    ردحذف
  5. سلطان القحطاني ـ الرياض

    الأستاذ المحترم والكاتب المبدع يوسف الزهراني
    كم هو جميل مقالك هذا اليوم وأنتَ تكتب عن والديك
    وتعبّر لهما عن مشاعرك الصادقة.
    أتشرف بأني أحد متابعي كتاباتك الوجدانية التي تمتلئ بالرقي والصدق في المشاعر.
    دعواتي لك بالتوفيق.

    ردحذف
  6. أماني ـ سلطنة عُمان

    بلاغة وأفكار وجَمال أسلوب يشدّ
    القارئ لآخر كلمة في المقال.
    شكرًا للأستاذ يوسف الزهراني

    ردحذف
  7. د.محمد الفرحان ـ الظهران

    أتابع مقالاتك يا أستاذ يوسف
    وأجد في قلمك إبداعاً تسعد به النفس
    خاصةً ونحن نفتقد الكتابات الوجدانية
    كل من يقرأ لك يشعر بإحساس عميق بالارتياح
    لكلماتك، نظراً للصدق الذي تتحلى به والصراحة
    التي تمارسها مع قُرائك..
    استمر في طريقك وفقك الله.

    ردحذف
  8. فهد البلوي ـ تبوك

    أستاذنا الرائع
    كتاباتك تشبه السِّحر
    وأسلوبك لا يشبه أي كاتب
    هنيئاً لنا بإبداعك ومقالاتك الوجدانية الراقية
    وقد أعجبني اللقاء الذي أجرته معك صحيفة الوئام
    وهذا هو الرابط لمن لم يقرأ اللقاء
    انسخوا الرابط من هنا وألصقوه في جوجل أو في واتساب ثم افتحوه.
    بصراحة لقاء ممتع مع كاتبنا المحترم.
    http://mobile.alweeam.com.sa/325044

    ردحذف
  9. ما اروع كتاباتك والله انها لي مثل الماء البارد في شدة العطش مهما اشرب ﻻ ارتوي منه
    وفقك الله ويسر لك كل عسر

    ردحذف
  10. ما أجمل ما قرأت هنا ،، جميل أن يكتب الكاتب المواقف الحكايات التي احدثها الوالدان وكان لها أثرها عليه ،، وأن يتعلمها ويعلمها ويسطرها بفخر وإعتزاز الشاكر لصنيعهما .

    أستاذ يوسف ،، أسجل أعجابي هنا بما كتبت وأتمنى لك مزيداً من التوفيق والإبداع


    أناهيد

    ردحذف