الأحد، 27 ديسمبر 2015

للصَّبر حُدود.!

يوسف بخيت الزهراني

للصَّبر حُدود.! *

مَن صَبر ظَفر، ومَن تأنّى نال ما تَمنَّى، هذا ما علّمتنا إيّاهُ الأمثال، فبالعملِ والاجتهاد والصبر يَنالُ الإنسانُ مرادَه، أمّا إنْ أسعفَه الحظ، وكانت لديه واسطة قويّة، فإنه لا يَحتاجُ لشيءٍ مما سَبَق.
وبالحديثِ عن الصبرِ تحديداً، نلحظُ ما وردَ فيه مِن عظيمِ الأجر وجزيل الثواب، ويكفينا قولُ الله عزّ وجلّ: «وبَشِّر الصابرِين». والسؤالان المهمّان: ما حالات الصبر؟ وما حدّه؟ وللأمانة، فأنا لا أَفرِضُ هُنا رأياً، ولا أسنّ قانونَ حياة، فالتجارب الإنسانية تشتركُ في العناوين، وتختلفُ كثيراً في التفاصيل، فليأخذ القارئُ العزيز ما يَراه صواباً، وليَطرح أي وجهة نظر لا تتفق مع قناعاته.
في بَعضِ الأحيان يَظنُّ الإنسانُ أنه عاجزُ الحيلة، قد استنفدَ احتمالاتِ الحل، وبقي الصبرُ ملاذه الأخير، ولكن هل هذه حقيقة ثابتة في جميع الأحوال؟ كلا، فكثير مِن الحقائق التي نتصوّر صوابَها هي ـ في واقع الأمر ـ صائبة نسبياً.
أعود للإجابة عن تساؤلي السابق، وأقول: الصبرُ ليسَ الحلَّ الأخيرَ لكثير مِن الكُربات والمشاكل، فهناك البحث الدائب عن الحلول، مَهما كنا لا نستسيغُ بعضَها، فالدواء الشديد المرارة تعقُبه الصحةُ بمشيئة الله، بل إن المِبْضَعَ الباردَ والمؤلمَ للجرّاح قد يكونُ سبيلَ النجاة!
إنّ الركونَ للصبرِ وحده عَجْز واستكانة وتخاذل، وتعطيل لدور جوهرة الإنسان الأغلى، العقل!
وربما كان الصبرُ في بَعضِ المواقف وَهْماً كبيراً، يَصنعه الإنسانُ لِذاتِه ويَبقَى يُردِّد: وماذا أَملكُ غيرَ الصبر؟! والإجابة عن هذا السؤال بسؤالٍ مهم: وماذا فعلتَ غيرَ الصبر؟! هذا إذا اعتبَرنا الصبرَ فِعلاً حقيقياً.
الصبرُ ليسَ أرضاً نقفُ عليها دائماً، بل هو قنطرةٌ نعبُرها مِن ضفة البؤس إلى ضفة السعادة، بالسعي الجادّ نحو نوافذ الضوء وشلالات البهجة، وقبْلَ ذلكَ وبَعْدَه بالتوكُّل على الرحمن، والاستعانة به تعالى في كلِّ الأحوال.
وحتى لا أقسو في كلامي على بَعضِ الأشخاصِ والحالات، سأستثني مَن «ضاقت عليهِم الأرضُ بما رَحُبتْ وضاقت عليهِم أَنفسُهم»، فهناك الذين حاوَلوا ثُم حاوَلوا، ومَنحوا لأنفُسِهم ولغيرِهم الفُرصَ تِلو الفُرص، لكن لا مَخرَج ولا تغييرَ يُذكَر، بل دورانٌ في حلقةٍ مُفْرَغةٍ بلا جَدوى، وعودةٌ لنقطةِ البداية في كُلّ مَرّة، هنا فقط، يبقَى الصبرُ المقرونُ بالأمل هو الاختيارُ الوحيد، وحذارِ مِن التضحيةِ لمَن لا يَستحقّ، والركض وراءَ السراب في صحارى الأوهام.
دعوهم يرحلوا لو اختاروا الرحيل، لا تركضوا خَلْفَ الراحلين، ولا تنادُوا لِمَن صَمُّوا آذانَهم، وتَركُوا أصواتَكم تتردّدُ في أوديةِ النسيان.
أنتُم الأهم، صدِّقوني أنتم الأهم، أنتم الأجمَل، أنتُم الأنقَى، فلماذا نَشقَى لأجْل مَن لا يُريدُ أنْ يَبقَى؟
لا تلتفِتوا خَلْفَ ظُهوركم، لا تَتحسَّروا على عُمْرٍ ضاع، وحُبٍ تبدَّد، لا تَلومُوا أنفسَكم، ولا تُقرِّعوها على جَهلِها أو طِيبتِها، اصنعُوا لِذواتِكُم حاضِراً بَهيجاً، استَمتِعوا بِلحظتِكُم الراهنة والقادِمة، وقُولوا بقناعة تامّة: الحَمدُ لله، نَحنُ بخير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا تنسَوهُم.!

يوسف بخيت الزهراني

لا تَنسَوهُم.! *

يشتركون معنا في هذه الحياة، لكننا لا نراهم ولا نشعر بهم، ربما تعمّدنا ذلك، أو لعلها مشاغلنا الخاصّة التي أخذتْنا بعيداً عنهم، حتى نسيناهم.
إنهم الفقراء الذين أذلّتهم الحاجة، والمرضى الذين أنهكهم الوجع، والغرباء الذين أرهقتهم الوحشة، والمنفرِدون الذين قيّدتهم الوحدة، وإذا مضينا أكثر في دروب الحياة، وجدْنا الأيتامَ والأراملَ وأصحابَ الدَّين والهمّ والمسؤوليات الثقيلة.
وقد يقولُ قائل: لديّ ما يكفيني مِن شؤون حياتي، وما يشغلني عن غيري مِن الناس، ولا أملكُ زيادةَ وقت لأركضَ خلْفَ مصلحةِ أحدِهم حتى أقضيها له، وما عندي فائضُ مال أواسي به فقيراً، وهذا كلامٌ صحيحٌ في ظاهره، خاطئٌ في باطنه، فمَهما كان الإنسانُ مشغولاً أو مهموماً أو فقيراً، إلا أن هناك مَن هو أكثر منه انشغالاً وأعظم همّاً وأقسى فقراً، وكما جرى المثل: مَن رأى مصيبةَ غيره هانت عليه مصيبتُه، ولعل في تفريجه لكربة مكروب تفريجاً لكربته، وتسهيلاً لأمور حياته، فمَن زَرع الخيرَ سيحصدُ ثمارَه، هذه قاعدةٌ إنسانيةٌ ثابتة، وسُنةٌ كونيةٌ جارية:
مَن يَفعلِ الخيرَ لا يُعدَم جوازيهِ
لا يَذهبُ العُرفُ بينَ اللهِ والناسِ
في كثير مِن الأحيان، يحتاجُ الإنسانُ لمن يُصغي إليه فقط، ويواسيه بكلمة ويدعمه بثناء ويتذكّره بدعوة، فهل يعجزُ أحدُنا عن الكلمةِ الطيّبة، السهلة في أدائها العظيمة في أثرها؟! إنْ عجِزنا عنها فالعزاء لنا في إنسانيتِنا التي تاهت مِنا، وفي قلوبِنا التي غادرتْها الرحمة، وجفّ منها الإحساس.
ويأتي هنا سؤالٌ في غاية الأهمية: أين يوجد هؤلاء الناسُ المحتاجون لمن يلتفتُ إليهم ويواسيهم على قَدر الاستطاعة؟ والإجابة لا تخفى على مَن أنعم اللهُ تعالى عليه بالرحمة في طبعه، وغمر قلبَه بالشفقة، فهو بإنسانيته الشفّافة وشعوره النبيل يتلمّسُ الحاجاتِ قَبل أن ينطقَ بها أصحابها، ويرى العبراتِ قَبل أن تتحدّر مِن محاجر العيون، ويسمعُ الآهاتِ وإنْ ضَعُفَ حِسُّها، ولا يهدأُ له بال حتى يقضي الحاجاتِ ويكفكفُ العبراتِ ويهدّئُ الآهات.
أما الذين يرغبون في تدارك إنسانيتهم وإصلاح قلوبهم بالإحسان إلى المحتاجين، ولكنهم لا يعرفون أماكنهم، فإني أقولُ لهم:
ابحثوا عنهم في زوايا الحياة المُهمَلة، فهم في أطراف مُدنكم وقُراكم، طواهم لحافُ النسيان المظلم، وارتحلت الابتسامةُ عن شفاههم، ربما كانوا مِن عابري السبيل، أو ممّن تعرفون مِن أقاربكم وجيرانكم، فتِّشوا عنهم حولكم، اسألوا عنهم إذا غابوا، تفقّدوهم أحوالَهم باستمرار، عُودوهم إذا مرضوا، أعطوهم ما يحتاجون إليه، امسحوا دموعَهم إذا انهمرت، واسُوهم في أحزانهم لتتضاءل، شارِكوهم في أفراحهم لتتضاعف، وأرشِدوا إليهم أهل الخير والإحسان لتكسبوا الدلالة على فعل الخير وتكونوا كفاعله، لستُ أقوم هنا واعظاً لكم، إنما هي ذكرى لي ولكم، وهذا أضعفُ الإيمان.
فلنرحم أيتامَنا وفقراءَنا وضعفاءَنا ومرضانا والغرباءَ بيننا، ولنتذكّر دائماً:
«إِنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ مِن المُحسنين».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@

بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، 26 ديسمبر 2015

أنا أحلم.. أنا موجود.!

أنا أحلم.. أنا موجُود.! *

يوسف بخيت الزهراني

فاتنةٌ هي الحياة، رائعةٌ بكل تفاصيلها، حين تنتظمُ في عقولنا وقلوبنا، كغيماتٍ من الأحلام والأفكار.
عن نفسي، لا أستطيعُ أن أفتح عينيَّ صباحا، وليس لديّ مشروع لحلم صغير، أحقّقه في ساعات يومي.
أما العُمر بأكمله، فهو أحلامٌ اصطفّت بجوار بعضها، في صف طويل منتظم، وكل واحد منها ينتظر ندائي ليغادر عالم الأمنيات، ويدخل عالَم الحقيقة.
بلا أحلام، تغدو الحياة ضرباً من العبث، ومغامرة محفوفة بالمخاطر غير المتوقَّعة، وسيرا إلى المجهول بخطّة لا وجود لها، مع كثير من الفوضى، والفوضى فقط.
هنا تعود بي الذاكرةُ إلى سنين الدراسة، وما زالت الدهشةُ تتملّكني من أحد أصدقائي، حين جلسنا ذات فُسحة إفطار، نتحدثُ بدون سابق موعد، عن أحلامنا بعد الشهادة الثانوية، ويدور الحديثُ فيما بيننا، وتُغلِّف الحيرةُ أحلامَنا، إلا أنّ هذا الصَّديق المتّقد ذكاءً ونباهة، بادرنا بالقول وعن ثقة مُطلقة:
أما أنا فسأصبحُ طبيب أطفال.
هكذا كان الصديقُ يرى حلمَه ماثلاً أمام عينيه، وأعتقدُ يقيناً أنه كان يقول لنا ذلك الكلام، وهو يتخيّل نفسَه مرتدياً معطف الطبيب الأبيض الناصع.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
مضت الأعوام، ودخل صاحبي كلّية الطب، متخصّصاً في طب الأطفال، ثم تخرج من الكلّية، وهو اليوم من ألمع أطبّاء الأطفال في المملكة.
الأحلام لا علاقة لها بالأوهام، الأحلام تصورٌ واضح وخطّة مكتوبة لمستقبل نتأمّله، إنها خارطة طريق واضحة المحطات ومرسومة المعالم، يمضي من خلالها الإنسانُ نحو أهداف محدَّدة بعناية، مع حساب المكسب والخسارة، وتوقُّع المعوّقات، وإيجاد الحلول والطُّرق البديلة.
كل ذلك ليس رجماً بالغيب، بل هو في بداية الأمر ومنتهاه، يمضي وفق مشيئة الله تعالى وتدبيره، وعِلمه الذي وسع كلَّ شيء، ودور الإنسان الأساسي في تلك المشيئة الإلهية، هو عمارةُ الأرض، وهذا الأمر لا سبيل إليه، إلا بجرعات يومية من الجِدّ والعمل، مقرونةً بالكثير والكثير من التفاؤل والأمل.
كم ينشغلُ أحدُنا بطول الطريق، ولو أنه جعل من ذلك الطريق رحلةً ممتعة، واستعدَّ لها بوضوح الخريطة وموفور الزاد؛ لسعِد وأسعَد مُرافقيه.
وكم يستبعد الإنسانُ بزوغَ ضوء الفجر، وكأنه لا يعلمُ أن أشدَّ ساعات الليل ظلمة، تلك التي يعقُبها طلوع الفجر.
حياةُ الإنسان تُشبه البيت، فإذا أُغلقت نوافذُ البيت تناقصت فيه كميةُ الأوكسجين، وبدا على سكّانه الضيق والاختناق، كذلك هو الإنسان، فإذا ما أَغلق نوافذَ روحه ومِخياله عن الأحلام؛ تحوّلت حياتُه إلى مجرد وقت يقطعه كيفما صار واتفق، حتى انتشر بين شريحة كبيرة من الشباب قولُ أحدهم لصاحبه: تعالَ بنا نضيّع الوقت.
ويا لها من دعوة إلى التهلكة والانتحار المجّاني، هنا بات لزاماً على الأُسرة والمدرَسة، أن تُشيع ثقافةَ تنظيم الوقت وصناعة الأحلام، ودعمها في عقل الطفل منذ الصغر، حتى يغدو شعاره:
أنا أحلُم، إذًا أنا موجود.!

ــــــــــــــــــ
* المقال تمّ نشره في صحيفة الوطن السعودية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@
بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ــــــــــــــــــــ