دَع عنكَ لَومي.!
يوسف بخيت الزهراني*
لا أسهل من الكلام حين ينطقُ به المرء، ولا أصعب من مداواة أثره القاسي، حين يعود الوعي لقائله.!
عندما قال الشاعر: ما أصعبَ الكلام، فله عذره في ذلك، وهو في موقف صادم ساد فيه الصمت، وتعطّلت لغةُ الكلام كما قال شاعرٌ آخر.
لكن الأمر هنا مختلف، لأن حديث اللوم سهلٌ في نطقه، ويجلب لصاحبه لذةَ الهيمنة على من أمامه، ويحقق له مثاليةً متوهمة، تجعل منه الحكيم الذي لا يخطئ، والنموذج الذي لا يتهور.!
وما أكثر اللائمين في البيت والشارع والعمل، بل ربما ظهرت لك بعضُ الوجوه الكالحة، تلومك في أحلام نومك ويقظتك.!
وهكذا يضرب اللائمون أطنابَ خيامهم، في صحرائك الشاسعة، ويحاصرونك بقطعان مفرداتهم الشاردة، وعباراتهم المتخشّبة، والاحتمال الأكبر أنكَ سددتَ أذنيكَ اختيارياً منذ زمن، عن سماع تُرّهاتهم وفارغ لومهم.
في الحقيقة، هذا هو الحل الأوحد؛ فأنتَ لا تستطيع إسكاتهم، وليس أمامك سوى صمّ أذنيك عن سياط عباراتهم.
تعالوا بنا نبدّل المواقع، ونجعل اللائم ملوما، هنا يهطل مطرُ الأعذار، وتهبُّ رياحُ التبريرات، وتسيل حُججُ النوايا الصادقة، فهل من الإنصاف أن نكون لائمين، ولا نرضى أن نتحول لملومين؟!
كم تأسرني سورة يوسف بكل تفاصيلها، وما يعنينا هنا هو موقف يوسف عليه السلام مع إخوانه الذين أخطؤوا بحقه، فإذا به يقولُ لهم بصفاء قلبه:»لا تثريبَ عليكم اليومَ يغفرُ الله لكم وهو أرحمُ الراحمين».
وكذلك الموقف الخالد لنبينا الكريم، محمد بن عبدالله صلواتُ الله تعالى وسلامه عليه، لما قال يوم فتح مكة، لكفار قريش الذين ناصبوه العداء أكثر من عشرين سنة:
اذهبوا فأنتم الطلقاء.!
بينما نبقى نحن، ندور في حلقات اللوم المُفرَغة زمناً طويلا، فلا استجاب المستمع ولا صمَت المتكلّم.!
يا إلهي، يبدو أنني وقعتُ فيما نهيتكم عنه، وتحولتُ هنا لكائن لوام للأقوام اللائمين.!
وخروجاً من هذه الورطة، تفضلوا منّي البديل لكثرة اللوم: إنه جميل العتاب، الذي يُشعر المخطئ بخطئه، ويدفعه بالحُسنى لتصويبه، ويُبقي حبالَ المودة ممدودةً متصلة مع أحبابنا.
ولنحرص على اختيار الوقت والظرف المناسبَين، ونتجنب كثرة العتاب، التي تجعل المستمع لا يبالي بما يُقال له من نصائح ليل نهار.!
ونستحضر في كل أحوال العتاب، بيت الشاعر دعبل الخزاعي:
تأنَّ ولا تعجل بلومٍ لصاحبٍ
لعلَّ له عذراً وأنتَ تلومُ.!
أما الأبيات المشهورة للشاعر بشار بن بُرد، فقد لخّصت محاذيرَ العتاب، وفيها يقولُ بشار:
إذا كنتَ في كل الأمور معاتبا
صديقكَ، لم تَلق الذي لا تُعاتبه
فعِش واحداً أو صِل أخاكَ فإنهُ
مُقارِفُ ذنبٍ مرةً ومُجانبُه
إذا أنتَ لم تشرب مِراراً على القَذى
ظَمئتَ، وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه؟!
ومن ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها؟!
كفى المرءَ نُبلاً أن تُعدَّ مَعايبُه.!
ـــــــ
نقلاً عن صحيفة مكَّة (الورقيّة)
للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصية أعلى هذه الصفحة.
للتواصُل مع الكاتب:
تويتر yba13@
بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــ
*كاتب بصحيفة مكَّة (الورقيّة)
في صفحة الرأي
كل أربعاء.