يوسف بخيت الزهراني
الكَنز المُتناقِص *
النقص طبيعة كلّ الأشياء في الدنيا، هذه حقيقة لا جدال فيها، فالشروق يليه الغروب، والشباب ينتهي بالهرم، والحياة آخرها الموت. ربما كانت هذه المقدمة مزعجة، وغير معتادة لما افتتح به مقالاتي، وما أدعو إليه باستمرار من التعلق بحبال الأمل، والتحليق مع غيمات التفاؤل.
ومع اعتذاري للقارئ الكريم، أقول له: عندما نمشي في طريق الأمل الأخضر، يجب ألا نجهل أو نتجاهل بعض الحقائق مهما كانت مؤلمة، لأن معرفتها ستجنبنا بإذن الله تعالى الوقوع في حُفر الأوهام، والتسبب بضياع الكثير من السنوات.
ومن أهم تلك الحقائق: أن ما مضى من العمر ـ بخيره وشرّه ـ لن يعود، وبالتالي فلا فائدة من التحسّر عليه، أو كما يُقال: البكاء على اللبن المسكوب لا يعيده، والحكمة تقتضي أن يستلهم الإنسان من الماضي العِبرة، ولا تشغله عن ذلك العَبرة.
يقول الشاعر طَرَفة بن العبد في معلقته:
أرى العيشَ كنزاً ناقصاً كلّ ليلة
وما تَنقُصُ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ
لعمرُكَ إنّ الموتَ ما أخطأَ الفتى
لكالطِّولِ المرخَى وثِنياهُ باليدِ.
هنا يشبّه الشاعر عُمرَ الإنسان بالكنز الذي ينقص كلّ يوم، ويشبّه أجله بالحبل المرخَى الذي يمكن شَدّه في أيّ لحظة، ثم يمضي طَرَفة معاتباً ابن عمّه في هجره له، قائلاً:
فما لي أراني وابنّ عمي مالكا
متى أَدنُ منهُ ينأَ عنّي ويَبعُدِ؟
وحال طَرَفة مع ابن عمه لا يختلف عن أحوال كثيرين مع أقاربهم. خصومات على أمور تافهة، ومقاطعة وهجر بالسنين الطوال على سخافات قديمة، والأسوأ في الأمر، أنّ الأجداد يورِّثون العداوات للأبناء، والأبناء يورثونها للأحفاد كما يورثون أموالهم.
والسؤال الموجع: متى ستنتهي هذه الخصومات إذا كان كل جيل يبذر بذورها المرّة للجيل التالي؟ بل ويتعهد سقيها بالقدوة السيئة في أخلاقه ومعاملته مع أقاربه وغيرهم.
وطَرَفة بن العبد قال في معلقته هذه الحقيقة:
وظُلمُ ذوي القربى أشدُّ مرارةً
على النفْسِ مِن وقْعِ الحُسامِ المهنَّدِ.
نعم، سنوات العُمر هي كنزنا الحقيقي والأثمن، فما بالنا لا نحرص عليها وهي أغلى من قناطير الذهب والفضة؟ وما دمنا نعلَم يقينا أنّ هذا الكنز يتناقص ـ وإن بدا لنا أنه يزيد ـ فلماذا لا نملؤه بما يسعدنا ويسعد من يهمنا أمره، ونجعل سنينه رحلة ممتعة بكل تفاصيلها؟
إنها لخسارة كبرى أن ينشغل الإنسان في عمره المحدود بحماقات لا فائدة منها، بل تجلب له الأمراض الجسدية والنفسية، وتجعله شخصاً مرتبكاً حائراً محيِّراً، علماً بأنه قادر على اختيار الطريق الأيسر والأسعد له.
ولله دَرّ المقَنَّع الكِندي حين قال:
وإنّ الذي بيني وبينَ بَني أَبي
وبينَ بني عمّي لمختلفٌ جدا
فإنْ يأكلوا لحمي وفَرْتُ لحومَهم
وإن يَهدِموا مجدي بنيتُ لهُم مجدا
ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهمُ
وليسَ كريمُ القومِ مَن يَحملُ الحِقدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال منشور في صحيفة الرؤية الإماراتية.
للتواصل مع الكاتب:
تويتر yba13@
بريد إليكتروني:
anayba2013@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمزيد من المقالات، يمكنكم لمس صورة الكاتب الشخصيّة أعلى هذه الصفحة.
كما يوجد سهم أسفل الصفحة يسار هذا شكله > باللّمس عليه تظهر المقالات الأقدم.
وسهم آخَر بهذا الشكل < أسفل الصفحة يمين للعودة للمقالات السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريقة التعليق على المقال:
الذهاب تحت المقال
ثم اختيار: إرسال تعليق
وكتابة التعليق المرغوب، مع أهمية كتابة الاسم والمدينة أو الدولة في أعلى التعليق.
ثم الذهاب إلى خانة: التعليق بِاسم، لاختيار ملف التعريف.
واختيار: مجهول
ثم الاستمرار في إجراءات سهلة، كوضع علامة √ على بعض الصور.
ثم: نشر.
شكرًا دائمًا للجميع ღ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ